بحث هذه المدونة الإلكترونية

2013/07/18

"تسونامي" الجعايبي/بكار: مسرحية "مؤقتة" تفتح ورشة أمل قاتمة...

ناجي الخشناوي ألوان عابرة لم تتجاوز دقائق معدودة افتتحت بها المسرحية، ليعم السواد أرجاء الركح ويطوّق زمان النص ومكان الأحداث... هكذا قرأت جليلة بكار والفاضل الجعايبي الزمن الحقيقي لما سُمّي "ربيعا عربيا"... لأنه "لم يكن كافياً ما تفتَّح من شَجَر اللوز"... ألوان "مؤقتة" فموجة سوداء علت وغمت الزمان والجغرافيا... وهكذا رسم الثنائي رفقة "الأيقونة" فاطمة بن سعيدان ورمزي عزيز وقيس رستم وربيع إبراهيم وبسام العلوي ونور الهدى بالحاج وتوماضر الزرلي وأسامة الجمعي ومحمد علي القلعي وعلي بن سعيد واميمة البحري ولبنى قنوني... رسموا جميعا زمنا افتراضيا لطوفان قادم بأمواج سوداء لن تستثني نقطة خضراء واحدة من المشهد... فنار الفتنة لا تنتظر الورد ليُكمل ألوانه ويتبرج في عطره، تماما مثل "شهوة التدمير"، تلك التي تتملكنا ولا نملك سلطانا عليها، لا تترك لنا الوقت للاحتفاء بإرادة البقاء... إرادة الحياة... ولو كانت حياة عابرة فوق خشب المسرح... ولو تسلحنا بشعار "لا خوف بعد اليوم"... لأن "حلمنا بزمن لا خوف بعد اليوم تراجع وانحصر وبتنا نعيش زمن الرعب... السّخَط... السّخَط... السّخَط...". بعد "غسالة النوادر" و"العرس" و"عرب" و"التحقيق" و"العوادة" و"فاميليا" و"عشاق المقهى المهجور" و"سهرة خاصة"... وصولاً إلى "جنون" و"خمسون" و"يحي يعيش"... يضيف مسرح "فاميليا" عملا جديدا "يُعزز" المناخ العام لأعمال الثنائي الجعايبي وبكار، وفي الوقت نفسه يتفرد بخصوصيته التي فرضتها وقائع "الآن وهنا"... فمسرحية "تسونامي" العمل المسرحي الجديد لشركة فاميليا والمسرح الوطني الفرنسي (والتي عُرضت ليلة الثلاثاء 16 جويلية في إطار الدورة 49 لمهرجان قرطاج الدولي) لا تشخّص واقعا معاشا فقط، بل هي تطرح رؤية استشرافية لزمن آت قريبا في رؤيا أصحاب هذا العمل. ولئن سبق للثنائي الجعايبي وبكار أن استشرفا نهاية النظام السابق وهروب رموزه ضمن مسرحية "يحي يعيش ـ أمنيزيا"، التي جاءت محاكمة فنية/سياسية سابقة لأوانها، بعد أن وقفا في مسرحية "خمسون" على حمى اليسار واليمين وأرشيف دولة ما بعد الاستقلال، هاهما في مسرحية "تسونامي" يستبقان الزمن التونسي ليصلوا إلى زمن قروسطي/ قادم... قد يكون يوم 15 أفريل 2015... سينوغرافيا المسرحية الجديدة "قلصت" من المؤثرات الدراماتورجية المبنية على لعبتي الضوء والعتمة دون أن تتنازل عنهما تماما، بل حولت وجهتهما نحو الملابس من جهة والخطاب من جهة ثانية، حيث استأثرت ملابس الممثلات والممثلين باللون الداكن من جلابيب وبراقع وأقنعة ومعاطف سوداء ولم يخرج خطابهم عن القتل والتهديد والوعيد والأمر والنهي باسم الله... (وكأن الله أمرهم بتفجير المسرح البلدي؟)، في حين انهمر الضوء من خطاب "حياة" (جليلة بكار) صاحبة المعطف الطويل، لأنها مثلت "الحياة" باسم الحب والعدالة والحرية... والأمل... خطاب بدا في ظاهره بسيطا حد "السذاجة" في جمله وتراكيبه (وهو اختيار مدروس) وفي ذات الوقت كان خطابا متشبثا بمرجعياته التنويرية من أبي القاسم الشابي إلى منور صمادح مرورا بألبير كامو ومحمود درويش... خطاب يبلغ مداه في تقنيتي التناص والتناظر الموظف في النشيد الوطني التونسي وأيضا من خلال تقنية التكرار... خاصة لكلمة (السّخَط...) والخطاب أيضا قد يبدو بسيطا للوهلة الأولى، إلا أن تقسيمه بين الأصوات يمنحه عمقا وتوهجا داخليا نكتشفه عندما نرى الصوت الأنثوي (خاصة حياة ودرة إلى جانب صوت أمين) يستأثر بلغة الاعتداد والتحرر والأمل ويكتسح الركح رغم الانكسارات والأوجاع، وبالمقابل نسمع الأصوات الذكورية لا تجيد النطق خارج الخطاب المتكلس الذي تستخدمه مطية نحو سفك الدماء والتدمير... وحتى النص القرآني كان "استغلاله" بشكل دقيق وتم توزيع ما تم اختياره من المتن القرآني بشكل يعبر عن طبيعة الصراع التراجيدي بين رهيني التكفير ودعاة التفكير... الديكور المعتمد لم يتجاوز كرسيين لم يكونا محل نزاع وصراع كما كانا في مسرحية جنون، بل لم تكن لهما أية أهمية أمام سطوة الخطاب الملفوظ وهي إحالة ذكية إلى أن طبيعة الصراع القائم اليوم هو صراع وجود وإثبات ذات، أما الكرسي فيبقى وسيلة وليس غاية في حد ذاته، غير أن الشاشة العملاقة المثبتة آخر الركح والتي تبث صورا "تقنية" لرسوم تحيل على ما يشبه الأعاصير أو الطوفان أو التسونامي لم تؤدّ دورا وظيفيا تاما بل بدت مسقطة وفي بعض الأحيان كسرت رمزية السواد الذي غرق فيه الركح... المسرحية، إلى جانب استدعاء الواقع في محاولة من الركح لمسائلته (اغتيال الشهيد شكري بالعيد وصرخة المناضل المحامي الناصر العويني ليلة 14 جانفي...) وظفت جملة من المعطيات الراهنة كتلك المتعلقة بما يسمى "الجهاد" في سوريا ولم تسهو عن "نقد" انخراط عدد من "الصحفيين" والمنابر الإعلامية في امتهان تجارة المعلومة والخبر تماما كتجارة الدين... وكانت حركة المكنسة في يد "حياة" خير وسيلة في وجه إعلام وخطاب لم يتحرر من سلطة رأس المال... رأس المال الذي لا دين له... الحركة صوتية بامتياز في تسونامي فاميليا، نصوص شعرية وسياسية ورسائل على جدران البلاد وفي ذاكرة شخوص المسرحية محفورة، خطاب بدا موحّدا في النشيد الوطني ثم عاش سكيزوفرينيا التشظي ليصير الصوت صوتان... تسونامي هزّ الجميع بمنطقين وخطابين مختلفين حدّ الدم، أحدهما نطق باسم الله ثم اغتال وفجّر وشرّد... وآخر صدح من حلق "حياة" باسم الحب والعدالة والحرية والمساواة... النشيد نشيدان وتلك هي المسألة في اختزال ركحي لجوهر الصراع تمنينا أن لا يعتريه الإسهاب والتداعي الذي شاب النص المسرحي في لحظات ومشاهد كثيرة. الركح الذي استوعب حراك البلاد منذ سنتين وجال به في تاريخها القديم والحديث في محاولة للفهم، عاج وماج اهتزازات منذ المشهد الثاني بالسقوط المدوّي والمتكرّر للمثلين على مدى العرض، سقوط صدم الجمهور في أحيان كثيرة ولكن تبين أن الجعايبي قد جعل منه إيقاع العمل ككل في محاولة لاستدعاء واقع السقوط والتعثر الذي تعيشه تونس والمنطقة وفي محاولة لاستنهاض ذاكرة البلاد وشعبها نحو المد العالي... "تسونامي" الفاضل الجعايبي وجليلة بكار قد تكون رهينة زمنها إلى حد كبير، أو إن شئنا لعلّها "مسرحية مؤقتة" يرمي من ورائها أصحابها إلى تسجيل موقف للتاريخ في راهنه استعارا له من أدونيس عنوانه العام "الثابت والمتحول"، مسرحية قد تُنسف "تنبؤاتها الثابتة" (15 أفريل 2015) بفعل الحراك الشعبي والمد الثوري، أو بجناحي طائر "الحبارى" الذي حلّقت معه الشخوص (الجدة والحفيدة، في إشارة لتواصل الأجيال) في نهاية المسرحية في استحضار لكل ما من شأنه أن ينقذ تونس من مستنقع السواد، وبفعل ورشة الأمل المشحونة بكلمة "لا" أجابها الصوت الأنثوي على مدارج قرطاج بالزغاريد ليؤكد مرة أخرى أن نساء تونس هن طائر الحبارى المنقذة لهذا البلد... وهن الشوكة الحادة في حلق المتطاولين على تاريخ تونس من سلفيين وإسلامويين... ودعاة موت... فالصراع الأصلي في المسرحية لا يمكن اختزاله في صراع الحداثيين ضد الإسلاميين بل هو صراع حياة... صراع الفن... هو صراع من أجل تحسين شروط الوجود بعيدا عن ثقافة القبور... صراع يدربنا "لنذهب معا في طريقين مختلفتين..." مثلما قال محمود درويش.