بحث هذه المدونة الإلكترونية

2013/06/14

الحجم الحقيقي لحركة النهضة

"لست منزعجاً لأنك كذبت علي اليوم، لكنني منزعج لأنني لن أصدقك من الآن فصاعداً." (نيتشة) يمثل الشعور بالاضطهاد والاغتراب أهم عاملين في تضخم "الأنا النهضوية"، وهو تضخم بدأ في دفع الحركة إلى تقمص دور "الجلاد" بعد أن كانت "ضحيته" من خلال استماتتها اليوم في بسط نفوذها بكل الأشكال والطرق، حيث تبني حركة النهضة خطاباتها، الدعوية والسياسية، على مبدإ صيغة التفضيل، وتقدمها قياداتها وقواعدها على حد السواء، على أنها الأفضل والأكبر والأقوى والأجدر عما دونها من باقي الأحزاب السياسية الوطنية، وهي تجتهد في تضخيم "أناها" لا فقط من خلال خطابها الملفوظ، بل أيضا من خلال الصورة التي تروجها عن نفسها بدءا من ضخامة مقرها المركزي بمونبليزير وحراسه (تذكرنا بدار التجمع الدستوري سابقا، المرتفعة بشارع محمد الخامس)، ومرورا بالمقرات الجهوية والمحلية، وصولا إلى الاجتماعات العامة التي تنظمها وتحرص على تقديمها بشكل "أركسترالي" مبني على الاستعراضات اللغوية والمشهدية، والتي تحشد لها الحافلات والسيارات لتحشد أكبر عدد ممكن من الناس فيما تسميه "المليونيات"... (مثل التجمع سابقا أيضا)... كما أن "زعيمها" يُصبغ على نفسه هالة مصطنعة انطلقت منذ أن أنشده مريدوه في مطار تونس قرطاج الدولي "أقبل البدر" ومنذ أن شبه الغنوشي انطلاقة حركته من جامع سيدي يوسف بانطلاقة الإسلام من غار حراء، وكذلك منذ أن قرر عدم الجلوس إلى منافسيه السياسيين في الحصص التلفزية والإذاعية (وهو ما قد يدل على قصور سياسي وافتقاد القدرة على الإقناع)... وأيضا بعد أن صار قبلة أصحاب المال والأعمال في مكتبه... وعودة بعض السياسيين له كلما "تناحروا" فيما بينهم (وما أكثر ذلك)... الصورة "الناصعة" لحزب حركة النهضة أيضا، يتم الترويج لها بطريقة متقنة من خلال الكتلة النيابية بالمجلس الوطني التأسيسي، وانسجامها الحديدي، في الدفاع المستميت عن الأخطاء الوزارية والمنزلقات الدستورية والقانونية، وهو "انسجام" ظاهري في الحقيقة، لأنه مبني على مبدإ "الموافقة دون اقتناع"، ومبني على التعليمات الفوقية القادمة من مجلس الشورى للحركة، لا على الاقتناع الذاتي لنائبات ونواب الحركة، وربما مقررة لجنة السلطة التشريعية والتنفيذية والعلاقة بينهما، صالحة بن عايشة عن حركة النهضة، قد تصدح ذات يوما بما خفي من تعليمات فوقية دونتها في الدفتر المتعلق بأعمال اللجنة والذي حاولت افتكاكه عنوة من النائب عمر الشتوي... أما الجانب المادي فهو الركن الأساسي في إبراز "ضخامة" حركة النهضة، فالإنفاق الباذخ يثير أكثر من نقطة استفهام حول مصادر تمويل الحركة، ولعل ما قدمته صحيفة "الاندبندنت" البريطانية، وما قامت به مجموعة "أنونيموس"، عندما اخترقت البريد الالكتروني لرئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي، كاف لمعرفة بعض مصادر أموال الحركة، مثل قطر والسعودية وتركيا وواشنطن، خاصة إبان الحملة الانتخابية وأيضا أثناء الإعداد لمؤتمرها السنة الماضية، وهو ما كشف عنه أيضا ويليام تايلور، المبعوث الأمريكي لـ"التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط" عن قيام واشنطن بتقديم أموال لحركة النهضة، ولا يخفى على أحد أن الجماعات الإسلامية في عمومها تعتمد أيضا على شبكات التهريب وخلق بؤر الاستثمار لضمان تمويلها المالي... ومن المهم أيضا التذكير بما أكده الصحفي الفرنسي "آلان جول" حول حادثة اعتقال السلطات الفرنسية لمستشار وزير العدل والقيادي في الحركة السيد بلقاسم الفرشيشي في مطار "أورلي" الدولي بتهمة تبييض الأموال بعدما تمّ القبض عليه صحبة تونسيين آخرين قادمين من السعودية بحقائب مليئة بالأموال... ولكن الثابت أيضا من ناحية أخرى أن الحركة تستمد "تعملقها" من تشتت القوى الديمقراطية وارتباك مواقفها من جهة، وأيضا من خلال سياسة الصمت والإفراط في "الانبطاحية" من طرفي الترويكا، حزب التكتل والمؤتمر... الأكيد أن مثل هذه المقومات وغيرها تساهم، بل ساهمت فعلا في إظهار حزب حركة النهضة كحزب "عملاق" لا يضاهيه أي تنظيم آخر، ولكن هل فعلا هذه هي الصورة الحقيقية لحزب عاش أكتر من ثلاثين سنة مشتتا بين السجون والمنافي ولاذ أكثر من ثلثيه بالصمت طيلة حكم النظام السابق وانحدر عدد كبير منها في مستنقع بن علي؟ أعتقد أن "تهديد" راشد الغنوشي في كل مرة "بأن محاولة إقصاء النهضة من الحكم سيدخل البلاد في منعرج التناحر والعنف" يؤكد، في لا وعيه ولا وعي الجماعة، أن حجم الحركة الحقيقي عكس الصورة المقدمة عنه، كما أن التلويح المستمر بأن حركة النهضة ستنتصر في الانتخابات المقبلة لا يدل إلا عن وعي "الجماعة" بحجمهم الحقيقي مما يدفعهم إلى توخي سياسة الهروب إلى الأمام من خلال الإيهام "بامتلاك ولاء الشعب" مثلما قال ذلك الغنوشي في اجتماعه بصفاقس بمناسبة الذكرى 32 لتأسيس "الاتجاه الإسلامي"... أما أهم المؤشرات الدالة على زيف الصورة المضخمة لحركة النهضة، فهي سياستها في حد ذاتها مع طرفين على الأقل بشكل مباشر، الأول هم السلفيون ومن لف لفهم من أحزاب كالتحرير وجبهة الإصلاح وحزب العدالة والتنمية وحزب الفضيلة وحزب الأمانة وأنصار الشريعة وحزب الأمة التونسي واللقاء الإصلاحي الديمقراطي، إلى جانب الجمعيات الدعوية... فجميعها تُظهر "العداء" لحركة النهضة وعدم الاتفاق مع سياستها، في حين أنها تمثل قاعدتها الانتخابية، ولنا في انتخابات 23 أكتوبر خير دليل على "الهبة الإسلامية" للسلفيين الرافضين آنذاك الانتخابات... وتصويتهم الجماعي لفائدة مرشحي الحركة... أما الطرف الثاني، فهو ما يحلو لحركة النهضة تسميتهم "التجمعيين النظاف" مثل حامد القروي الذي كتب عنه خالد شوكات في صحيفة المغرب، بأن الفترة التي كان فيها وزيرا أول (1991/1999) فاقت فيها ملفات التعذيب الأربعين ألف ملف، ومثلت عشريته الأكثر "عفونة وسوادا في زمن التحول العتيد"، وما حامد القروي إلا واحد من المئات... فسياسة الانتقاء التي تنتهجها النهضة مع أبناء النظام السابق، ومنحها بعض المتنفذين سلطة جديدة، مالية أو سياسية، تؤكد أن الحركة تنفخ في صورتها بشكل هستيري يبلغ حد "أكل لحم أبنائها المضطهدين" بكل جحود ونكران لذواتهم، وكل ذلك في سبيل الاستئثار بالسلطة وتحقيق حلم الحكم، ولعل رفع كلمة "ديقاج" في وجه أهم مؤسسي الحركة، المحامي عبد الفتاح مورو، خير دليل على مدى جحود ونكران أهل مونبليزير لآبائهم المؤسسين، (إلى الآن لم نرَ موقفا شاجبا أو رافضا للاعتداء على مورو)... كما أن قانون "تحصين الثورة" هو بالأساس مدخل منهجي وتكتيك سياسي لتحصين بقاء الحركة في الحكم بشروطها هي... ولذلك نتابع اليوم اللقاءات الماراطونية، العلنية والخفية، بين حركة النهضة والمعنيين بهذه "البدعة"، وهي لقاءات تبحث بالأساس شروط الرضى والموافقة... الجانب المهم أيضا والأساسي في التضخيم المفتعل لحركة النهضة، هو العودة بكل قوة إلى الخطاب الديني، باحتكار النطق باسم الله من جهة، واعتبار منافسي الحركة أعداء الله والدين، وهذا ما نجده في قول الغنوشي ذاته عندما قال "سيسجل التاريخ أنه في سنة 2012 تخلى البعض عن آخر التسميات أو الأفكار التي تظهر العداء للدين" في إشارة واضحة لحزب العمال الشيوعي سابقا...(الحزب الذي دافع بشراسة عن حركة النهضة أيام بن علي) ومثل هذا التصريح لا يدل على سذاجة فكرية، بل هو يدل على افتقاد حركة النهضة إلى أدنى شروط الديمقراطية في العمل السياسي، ويدل أيضا، ومرة أخرى، على وهم الصورة المضخمة للحركة... فمقارعة المنافسين السياسيين، حسب حركة النهضة، لا يتم وفق البرامج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل تستبيح فيه الحركة "المقدس الديني" وتنزل به من عليائه إلى الحضيض... وتُشهر فيه كل أشكال التشويه والادعاء بالباطل، وهذا ما يؤكد أن الحركة لا تمت بصلة للعمل السياسي المدني، وأن حجمها الحقيقي لا يخرج من مساحات المساجد والفضاءات الدعوية... وكأن الحركة لا تهتم بالمواطن التونسي بقدر ما تهتم بالمتدين... وربما لذلك نفهم إصرارها المستميت على الترويج الدائم لمقولة "الشعب التونسي مسلم"... إن الأحزاب التي لا "تصنع" لنفسها صورة مضخمة لا يمكنها أن تستأثر بالحكم وتسيير دواليب الدولة، مهما كانت الدولة، ولكن التضخيم المبالغ فيه والمبني على قاعدة هشة ومفتقد لأرضية واقعية وأفق واقعي سيعجل حتما بانهيارها واندثارها، وهو ما لا نتمناه لحركة النهضة باعتبارها جزء من المشهد السياسي اليوم، وهو ما نتمنى أيضا أن تستوعبه قياداتها وقواعدها، وتفهم أنها لا تمثل كل المشهد وليست أيضا الجزء "الأهم" و "الأصعب" فيه...

هناك تعليق واحد: