بحث هذه المدونة الإلكترونية

2012/12/27

المأتم السياسي

تعرف الانتخابات في ظل الأنظمة الدكتاتورية حالة من التوتر والتشنج تصل حد العنف والقتل، وتغذي هذه الحالة النزعة القبلية والعصبية المتشددة التي تشرع كل أنواع التعدي على المرشحين والمنتخبين على حد السواء، ويتغلب منطق القوة و"الفتوة" و"الرشوة السياسية" على قانون الانتخابات وعلى البرامج الانتخابية، ويبدو أننا في تونس سنعيش الانتخابات القادمة، إن حصلت، تحت مظلة الدكتاتورية الناشئة خاصة أن عديد المؤشرات بدأت تطفو بشكل علني منذ مدة لعل أبرزها غموض القرار السياسي من قبل الحكومة المؤقتة في علاقة بتفعيل الهيئة المستقلة للانتخابات وهي الهيئة التي من شأنها أن تضمن حدا أدنى من الشفافية ونزاهة العملية الانتخابية، إلى جانب التراخي المفضوح في كتابة الدستور والتعجيل بالانتهاء منه في ظرف سنة مثلما تم الاتفاق على ذلك قبل الانتخابات الفارطة، هذا فضلا عن حرب النيابات الخصوصية بالبلديات وتغليب المصلحة الحزبية على حساب الكفاءة والمصلحة الوطنية في تسيير دواليب الدولة وهياكلها التنظيمية باستعمال النفوذ السلطوي، إلى جانب استعراض القوة في أكثر من مرة... والإصرار على الإقصاء الجماعي تحت مسمى قانون "التحصين السياسي للثورة" والسعي إلى فرضه دون حوار، وطبعا المحاولات المتكررة للسيطرة على وسائل الإعلام وتوجيهها للطرف الماسك بالسلطة الآن خاصة بعد تعليق أعمال الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام... هذه المؤشرات وغيرها التي لا تخدم المسار الديمقراطي والعملية الانتقالية من مرحلة الديكتاتورية والانتخابات المزيفة إلى مرحلة الشفافية والديمقراطية، تضاف إليها اليوم أساليب موغلة في الهمجية والاستهتار بحلم هذا الشعب في حياة ديمقراطية، أساليب بدأت تطفو على المشهد السياسي منذ أن سقط رأس الديكتاتورية، حيث أصبحت جل الأحزاب المدنية تحديدا مُستهدفة بشكل مباشر سواء في قياداتها أو في قواعدها ومقراتها، وفي كل مرة تتحول التظاهرات العامّة، إلى ما يُشبه "المأتم"، خاصة بعد أن بلغ الأمر إلى حد القتل العمد، كما أن اغلب الاعتداءات المتكررة على أهل الفكر والثقافة والفن وعلى النقابيين والحقوقيين كانت كلها في خدمة السياق السياسي العام المراد إقراره بالقوة، وهو نسف لكل إمكانات الانتقال الديمقراطي السلمي. العنف السياسي بلغ ذروته يوم 4 سبتمبر عندما استبيحت بطحاء محمد علي، وما شهدته سيدي بوزيد كذلك من اعتداء بمناسبة احياء الذكرى الثانية لانطلاق ثورة الحرية والكرامة، وكانت الاعتداءات في جربة يوم 22 ديسمبر 2012 الجاري أخر حلقاتها، ودون الإحالة على القيادات النقابية والسياسية والوطنية المستهدفة والأطراف التي تمارس التحريض السري والعلني والتي باتت معلومة، فان "المبررات" المطروحة من قبيل "الثغرات" الأمنية داخل الجهاز الأمني وتساهله في أكثر من حادثة، وتسريب السلاح من ليبيا أو الجزائر، وكذلك إطلاق سراح عديد المساجين جميعها وغيرها كان يمكن تداركها وإيجاد الحلول المناسبة لها حتى لا نصل إلى نقطة اللاعودة بعد أن صارت تونس في القائمة السوداء للدول، غير أن الإرادة السياسية غائبة ولم نشهد إلى حد اليوم سوى الاستهتار الكامل والمخجل من قبل من يمسك بدواليب الحكم أمام هذا العنف الذي يتواتر بشكل يومي ومُمنهج يضرب في العمق منسوب الثقة بين الفاعلين السياسيين، ويستنزف بالدرجة الأولى "الطاقة الثورية" التي من المفترض أن تغذي المسار الانتقالي الديمقراطي، ويكرس قناعة مفادها ان العنف تحول إلى أسلوب إدارة الفشل لا غيره.

حكومة "المايباخ" وثورة "التكتك"

سيُحشر الشعب التونسي في علب "التكتك" ليتنقل بها بين الحفر والطرقات المهترئة، مجازاة له على دمائه التي سالت على الطرقات نفسها، وسينعم بعضهم بسيارة "المايباخ" ليتنقلوا بها من قصورهم الفخمة إلى المطارات، ليتمتعوا بنعم الثورة التي لم يشاركوا فيها أبدا... فبين سرعة أفخم سيارة على وجه الأرض "المايباخ"، (300 كلم في الساعة) والتي أهدى واحدة منها القذافي لبن علي، تلك المعروضة الآن بمعرض كليوبترا بضاحية قمرت، وبين سرعة "التكتك" (لا تتجاوز 50 كلم في الساعة) وسيلة النقل المزمع توريد 21 ألف واحدة منها إلى الطرقات التونسية، بين السرعتين يمكننا أن نقف على الهوة العميقة بين مطالب الثورة الشعبية وبين "الحلول" التي تطرحها الحكومة الحالية... ويمكن أن نتبين الصورة الكاريكاتورية التي نحن بصددها... أما سيارة "المايباخ" تلك المركونة تحت أضواء معرض قمرت، إلى جانب عشرات السيارات المماثلة فخامة وغلاء، في انتظار من سيظفر بها ويدفع سعرها الذي قد يفوق الثلاثة مليارات من مليماتنا، فضلا عن الإضافة الرمزية لسيارة "الطاغيتين"، وهو مبلغ يمكن أن يفتح أكثر من شركة قد تضمن أكثر من مائتي موطن شغل، ويمكن للمبلغ عينه وأكثر أن تضمنه الدولة لو جعلت من معرض كليوبترا بقمرت معرضا سياحيا مفتوحا دائما للزوار مثل المعرض الملكي بالأردن الذي يدر أرباحا محترمة للدولة من خلال عائدات الزيارات اليومية له... خاصة أن معرض الأملاك المصادرة شهدت زيارة 451 زائرا في اليوم الأول و385 زائرا في اليوم الثاني وهذا الرقم يوفر 11 مليونا و550 دينارا باعتبار أن تذكرة الدخول 30 دينارا للزائر. ويمكن أيضا استغلال آلاف القطع والتحف والوثائق التاريخية والنادرة للفترة البورقيبية، تلك المنذورة للتلف والغبار والنسيان داخل القصر الرئاسي، وعرضها في فضاء آخر يمكن أن يكون هو أيضا موردا من موارد الدولة وفضاء يشغل أكثر من شخص... غير أن فن إتلاف الذاكرة ونسف التاريخ يبدو انه الفن الأكثر امتهانا لدى الحكومات المتعاقبة، فمثلما "مسح" نظام بن علي سجن 9 أفريل من فوق الأرض، هاهي الحكومة الحالية "تبيع" التاريخ في المزاد العلني تحت الأضواء الكاشفة والابتسامات المجانية... إن مثل هذه الأشكال لا تساهم إلا في تعميق الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين ملايين الشعب المفقرة والمسحوقة من جهة وبضع مئات من "الرأسماليين" الذين يمتصون عرق العمال ليقتنون سيارة بأكثر من مليار ونصف المليار... وأما "سيارة التكتك" التي أعلن رئيس الحكومة المؤقتة أنه سيتم توريد قرابة العشرين ألف وحدة منها بداية من السنة القادمة في إطار "مشروع نموذجي"، فهو مشروع مثلما انتقده سواق التاكسي يهدد أكثر من 60 ألف موطن شغل، هذا فضلا عن كون المدن التونسية تعيش حالة اختناق كبيرة، ولا يمكن أن تكون هذه السيارات مواطن رزق دائمة وحقيقية... ومن المفارقات المضحكة أن يتزامن رواج خبر توريد واستغلال حوالي 21 ألف عربة تكتك، مع تدشين الصين لأطول خط للقطارات فائقة السرعة في العالم يربط بين بكين في الشمال وكانتون في الجنوب في رحلة طولها 2300 كلم وتستغرق ثماني ساعات، ثلث المدة التي يستغرقها القطار العادي...