بحث هذه المدونة الإلكترونية

2011/08/25

الموت لا يعرف النوايا الحسنة




ربما الطريقة المثلى لإيقاف تدحرج كرة النار المشتعلة بين تصريحات المقدم سمير الطرهوني والوزير السابق للداخلية أحمد فريعة بشأن إصدار الأوامر لإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين بشارع الحبيب بورقيبة والشوارع المتفرقة عنه يوم 14 جانفي وقبله وبعده أيضا، تتمثل حسب رأيي في ترتيب برنامج تلفزي يستضيف الشخصين حتى يتبين الشارع التونسي الخيط الأبيض من الأسود، وتكون بينهما "مكافحة" على الهواء مباشرة قد تساهم ربما في إخماد النار الملتهبة في صدور أمهات الشهداء ولدى الرأي العام، ولما لا تكون طريقة جديدة في تقصي الحقائق والكشف عنها...

فالثابت أن الشهداء الذين سقطوا برصاص "الحاكم" هم الدليل القاطع على أن هناك من أصدر أمرا جللا لإخماد الأنفاس الثائرة بطريقة إجرامية ووحشية، ولأن الاتهام واضح ولا لبس عليه لوزير الداخلية السابق والأمين العام المستقيل من حزب سياسي جديد منحه إياه زميله في وزارة الداخلية، فما على السيد أحمد فريعة إلا أن يمثل للقانون أو يثبت بطلان التهمة الموجهة إليه علنا ويرفع قضية في الادعاء بالباطل في حقه ضد السيد سمير الطرهوني.

وإذا كانت الحكومة الانتقالية قد منحت هذا الوزير رخصة حزب سياسي، ونفس الحكومة رتبت تفاصيل الندوة الصحفية للمقدم سمير الطرهوني ببهو الوزارة الأولى بعد سبعة أشهر وأمنت "سبقا" صحفيا لقناة "نسمة" (لا ندري لماذا قناة نسمة بالذات ؟؟؟) لاستضافة المقدم أو "بطل المطار الذي رفض الرئاسة" على حد وصف أحد الصحف السيارة، إذا كانت الحكومة الانتقالية غير بعيدة عن هذه التفاصيل فالأكيد أن جل الحقائق، إن لم نقل كلها، بحوزتها.

ثم إن "الكرطوش الحي" الذي أمر المخلوع في خطابه الأخير بالكف عن إطلاقه، كان يحصد أرواح المتظاهرين قبل أحمد فريعة، وكان بحوزة المؤسسة الأمنية والمؤسسة العسكرية، ولدى بعض العصابات المتنفذة التي تتاجر بالسلاح والذخيرة ومازالت إلى اليوم طليقة... مما يعني أن الذين يتبادلون اليوم التهم فيما بينهم هم كلهم في سلة واحدة، وان اختلفت النوايا، لأن الموت لا يعرف النوايا الحسنة؟؟؟

إذن مسالة الرصاص الحي تشبه حقل الألغام الموقوت المعدل بعقارب ساعة خبيثة تتقن اختيار التوقيت المناسب والاسم المناسب لحياكة سيناريو مشوق يأخذ الألباب ويسيل حبر الأقلام ويسرق عدسات الكاميرا من نبض الشارع وهموم المواطن، فكل رواية جديدة تمحي ما سبقها، وكل اسم جديد يتوارى خلفه الاسم القديم وهكذا دواليك تستمر الأطراف المتنفذة في حياكة كمامة ملائمة للمطالبين بالعدالة الحقيقية وبإنجاح أهداف الثورة...

أطراف تقاسمت الأدوار، وجندت بعض وسائل الإعلام (التي لم ولن تتخلى عن جبتها القديمة) لإلقاء الطعم في كل مرة للمواطن التونسي وتلميع صورة "بطل وطني" جديد حتى أني قرأت "تحليلا صحفيا" بعنوان "معجزة الواحد الأحد" فأهلا بزمن الأنبياء الجدد أصحاب الرصاص الحي الملثمون بالدهاء، ومرحى لنا بالوطن الزريبة الذي تتناطح فيه أكباش الفداء وتتناسل فيه الذئاب...

إن هيبة الدولة المزعومة لن تجد مكانا لها وسط حقل ألغام من المتفرقعات الكلامية الذي يُنثرُ هنا وهناك، كما أن هذه الهيبة لن تتحقق بسياسة الاستغباء التي تتبعها الأجهزة المتكلسة لدولة ما قبل الثورة، وحيل الالتفاف على أمل الفقراء والمعطلين والمهمشين لن تنطلي عبر أجهزة إعلام لم يستوعب أصحابها أنهم يمثلون سلطة في حد ذاتها وليسوا بيادق يتكلمون بأمر ويصمتون بأخر...