بحث هذه المدونة الإلكترونية

2011/06/29

المعسكرات العقائدية



"لا وجود لغير الواعي بوجوده" (فوكو)

"تتقدّم وتموت خير من أن تتوقف وتموت" (غرامشي)

إن تواتر الأحداث العنيفة في المشهد المجتمعي التونسي الآن، تلك التي تنتهك حرمة الأخر وفكره باسم الدين لا تدل إلا على أنّنا نؤسس لثقافة تنتمي إلى الماضي ذهنيا وتعيش في الحاضر ماديا استهلاكيّا، وترغب في السيطرة على المستقبل أملا وحلما، وإننا لم نؤسّس بَعْدُ لثقافة حقيقيّة نكون فيها فاعلين ومتفاعلين، وإنما ظللنا رهينيّ لحظة "التقوقع" إزاء الوعي الديني الذي لم يتطوّر منذ القرن الرابع للهجرة، فتحوّل بذلك عالم الفكر إلى معسكرات عقائديّة وسجون إيديولوجيّة تؤيّد نظام الوَثْب على السلطة لا نظام التداول الديمقراطي.

ففي الوقت الذي تعانقت فيه كل الرؤى وتشابكت الأيادي للكشف عن كل من ساهم في تخريب هذه البلاد طيلة العقود المظلمة من الحكم النوفمبري من خلال العمل على تحديد قائمات اسمية تضم كل من تورط في انتهاك حرمات المواطنين وفي نهب ثروات البلاد وفي ضرب كل الحقوق المدنية، بدءا بقائمة المناشدين للمخلوع، وقائمة الإعلاميين الذين كرسوا الصوت الواحد والقلم الواحد والصورة الواحدة، مرورا بقائمة من استغلوا مسؤولياتهم الإدارية لتمرير المشاريع الوهمية، وقائمة الرأسماليين الذين نخروا الثروة الوطنية وانتهكوا حقوق العمال، وقائمة أشباه المثقفين الذين ضربوا المزلاج أمام ثقافة وطنية تقدمية، وقائمة عرابي السياسة الذين أعاقوا المشروع الديمقراطي منذ الثمانينات....

في الوقت الذي من المفترض أن تتوحد فيه كل الأصوات ضد هذه القوائم السوداء وغيرها، تتعالى اليوم أصوات وترتفع أياد في غير اتجاهها لتصيب نبض البلاد في العمق... ترتفع الأيادي اليوم بمعاول الرجعية والعماء الفكري لتضرب كل نفس ناضل فيما مضى ضد كل أشكال القمع النوفمبري ويواصل اليوم النضال من اجل بناء ديمقراطي حقيقي...

ترتفع اليوم أصوات ضد المبدعين التونسيين وضد أحرار هذا البلد الذين تكلموا زمن الصمت وقالوا "لا" زمن "النعم" ولم يسبحوا بحمد مخرب البلاد...

اليوم، وبغباء مفرط، يتم تحويل وجهة الثورة التونسية، بأيادي من أراد قمعها قبل يوم 14 جانفي وبعده والى الآن، اليوم يتوحد العدو الرئيسي للشعب التونسي ليداعب البيادق القديمة الجديدة ويلقي بها في المسار المعاكس للانتقال الديمقراطي، بتواطؤ مفضوح من المهرولين الجدد إلى كرسي الخراب، الحالمين بأكياس الأصوات...

إن مهمّة المثقف التونسي تتضاعف أكثر لأن حجم الكارثة يكبر وتأثيرها يتعمق بشكل يومي، وأعتقد أن عمقها وتأزّمها يمتدّ أكثر ويطول بمثل تلك الفتاوى والتصريحات من أناس يملكون سلطة عقائدية وروحيّة، وأعتقد أن الوطن الذي يهزأ بالعقل ويهمله ويحاكمه يحقّ عليه ـ لا على العقل ـ الهزء والإهمال والخسران، بل هو واقع فعلا في الخسران منذ أن صُلب الحلاّج وشُرّد التوحيدي ونُفي ابن رشد وقُتل السهروردي وابن باجة واغتيل مهدي عامل وحسين مروّة وناجي العليّ وغسّان كنفاني وخُصي مظفّر النواب وقتل منور صمادح والقائمة تطول ومازالت تطول إذا ما ظلّ يفتي في أمرنا أصحاب اللحيّ المشبوهة التي تُغطّي عورة إجرامهم وزيف عبادتهم ولا يُحسنون إلا التسبيح باسم من نصّبهم مفتيا علينا أو إماما أو شيخا دينيا، كي يُتقنوا معا مسرحية "إصلاح وإنقاذ الشعب" ؟!

والشعب ذاته ممثّل بارع في هذه المسرحية/المهزلة، إنّه الممثّل المتفرّج الذي يُجيد باقتدار دوره المزدوج، لأنّ شخصيته منفصمة بين "نعم" في النور و"لا" في العتمة، فهو يقوم بدور الممثل حينما يُضرب من طرف خارجيّ فتتعدّد مظاهراته وصيحاته وتنديده وشجبه ورفضه اللغوي فقط لمَ يحصل، وهو في نفس الوقت يمارس دور المتفرّج بإتقان مدهش، يتفرّج صمتا وخوفا وتزكية ومباركة لأمواله المنهوبة وحقوقه المسلوبة وجسده المقموع وأحلامه المستحيلة... فلا لوم إذن على ما نحن فيه من هزائم ونكبات ونكسات وأزمات، وما شابه من متواليات العدمية، مادام لنا في الحال نصيب لا بأس به، ولا غرابة اليوم من التهجم على النوري بوزيد وأولاد احمد ورجاء بن سلامة وألفة يوسف ومحمد الطالبي وعادل بوعلاق، ولا غرابة أن تتهشم قاعة السينما المناضلة الافريكارت ويتم تعنيف صاحبها الحبيب بالهادي وقاعة الحمراء وتتوالى فتاوي التكفير وإهدار الدم لأبناء الوطن، ويُمنع السواح من دخول جامع عقبة ابن نافع بالقيروان ويطردون من الحمامات ويتم التهجم على المحامين المناضلين وتعنيف المحامي عبد الناصر العويني والمحامي فاخرالقفصي ويُزج بالإعلاميين في متاهات ودوائر عقيمة...