بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/09/03

تاكسي خالد الخميسي (3)




إن المزاوجة بين اللغة الفصحى واللهجات العامية ظاهرة تقنية لم تبدأ مع أحمد الخميسي، فقد سبقه إلى ذلك توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ومحمد برادة وحنا مينة ومحمد شكري وعبد الكريم غلاب وصنع الله إبراهيم ويوسف إدريس وعبد الرحمان مجيد الربيعي وغسان كنفاني وغيرهم، بل إن كاتب روايتي "الأرض" و"الفلاح" عبد الرحمان الشرقاوي استخدم العامية فقط، وكثيرون هم الكتاب والشعراء الذين وظفوا الخطاب العامي ضمن مؤلفاتهم لإيمانهم بأن اللهجات العامية تضفي نوعا من الواقعية والصدق، وهو ما يعلنه بصريح العبارة أحمد الخميسي في مؤلفه "تاكسي"، وهناك من الكتاب من يوظفها لغايات إيديولوجية للتعبير عن الصراع اللغوي وفقا لصراع الطبقات الاجتماعية. كما أن كبار الكتاب الغربيين وخاصة منهم الواقعيين والطبيعيين مثل بلزاك وفلوبير وتولستوي وستندال وإميل زولا استخدموا اللغة التصويرية المباشرة القائمة على الريبورتاج الواقعي التوثيقي ومحاكاة الواقع وتصويره تصويرا تقريريا.

من المتعارف عليه انه لا يوجد سرد خام وأن الكاتب يقوم بمهمة يمكن أن نطلق عليها "الاستيعاب الاختزالي" لمادته السردية وهي مهمة قوامها إعادة توزيع وتجميع المقاطع السردية المتفرقة و"تنظيمها" بالشكل الذي يمكن أن تظهر فيه وكذلك بالشكل الذي يمكن أن يستوعبها والذي يمكن معه – وبقدرة الكاتب – أن تطرح الأسئلة بدل تقديم الإجابات، ولئن يلزم الكاتب بما يسمى "العقد الروائي" الماثل في جميع أنواع الخطاب السردي، والقاضي بأن يقوم المتلقي بالتقاط شروط المتلفظ واحترامها على أساس تمتعها بدرجة عالية من الحقيقة، فإن هذا العقد لا يلزم – بتاتا – الكاتب بالخضوع للشكل الخطابي الذي يتلقى به مادته الحكائية، أي شكل ملفوظه، فالمنطوق لا يمكنه أن يحدد طبيعة المكتوب شكلا إلا فيما ندر من النصوص التي تكون عادة نقلا حرفيا لوقائع حقيقية، وتكون بالتالي خالية من أي موقف يمكن أن يصبغه الناقل على ما نقله، في حين أن نص تاكسي تحتشد فيه المواقف الشخصية للكاتب احمد الخميسي في أكثر من موضع.

ولئن يوهمنا الكاتب بوحدة السياق النصية التي اشتغل عليها، والمتمثلة في المواقف والطرائف والحكايات التي يعيشها أصحاب التاكسيات في القاهرة بالأساس، فإن مجموع تلك الحكايات التي بلغت 58 حوارا أو حكاية، ضربت تلك الوحدة السياقية حتى في مستوى حركتها، وكأن القارئ أمام جملة من المقاطع المشهدية التي تبدو في الظاهر مكتملة البناء وهي في الواقع أوصال مجزأة مثل شريط مسترسل من الأنباء المتفرقة التي يعسر على القارئ الوقوف على تماسك وحدتها الدلالية المفترضة، وضمن هذا السياق يذكر لوسيان غولدمان بأن "اجتزاء الكاتب لبعض عناصر المضمون من الشعور الجماعي، أو بشكل ابسط، من المظهر التجريبي المباشر للواقع الاجتماعي المحيط به – هذا الاجتزاء ليس دائما منهجيا ولا عاما، ولا نجده إلا في بعض النقاط من هذا الأثر الأدبي، معنى ذلك أن الدراسة السوسيولوجية في توجهها خاصة نحو البحث عن التشابهات مع المضمون، قد أغفلت وحدة الأثر، أي طابعه الأدبي الخالص." ويضيف غولدمان فيقول:"إن انطباع المظهر المباشر للواقع الاجتماعي للشعور الجماعي في الأثر الأدبي، يبدو بشكل أوضح لدى الكاتب الضعيف القوة الإبداعية الذي يكتفي بالوصف أو الحكي دون أن ينقل تجربته الشخصية، وهذا ما يفسر كيف أن سوسيولوجيا الأدب المتوجهة نحو المضمون ذات طابع نوادري أو حدوثات." وهذا القول ينطبق تماما على كتاب "تاكسي". فعمل الكاتب/السارد هو بالأخير يمثل – مثلما يقول تودوروف – "أسلوبا مباشرا ولكن من درجة أعلى وبالأخص إذا كان السارد عنصرا من النص" كما هو الحال في "تاكسي".