بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/01/19

التوزيع العادل للكلام



كشفت لنا أحداث العدوان الصهيوني الهمجي على قطاع غزة وما جاورها من المدن الفلسطينية منذ ما يقارب الشهر عن جملة من المفارقات التي لا يمكن لعاقل أن يتجاوزها دون التمعن فيها وإلقاء الضوء عليها، وهي مفارقات تدور أغلبها في فلك الأشكال التقليدية والمستحدثة لمساندة المقاومين ودعم صمودهم ونضالاتهم المشروعة أمام آلة الدمار...

ولئن كانت أغلب أشكال المساندة في السابق تتمظهر أساسا في المسيرات السلمية المنددة بالعدوان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية وفي جمع التبرعات العينية والمالية وفي المقاطعة الفردية للبضائع الصهيونية والأمريكية وفي فتح قائمات المتطوعين في بعض الدول، وغيرها من أشكال المساندة والدعم، فإننا اليوم، وأمام استفحال الغطرسة الصهيونية وضربها كل المواثيق والقوانين الدولية عرض الحائط وتقدمها في السقوط الأخلاقي إلى الحضيض باستهداف المدنيين من الأطفال العزل والنساء والمسنين وفي تدميرها للمنشآت الاجتماعية كالمدارس والمستشفيات والمنازل... وقفنا على أشكال جديدة ومتطورة من التضامن مع أهل غزة والفلسطينيين عموما نذكر منها مثلا طرد الرئيس الفينزويلي لسفير الكيان الصهيوني من بلاده، أو تحطيم بعض المتظاهرين في الولايات المتحدة الأمريكية لواجهات المطاعم والمحلات الداعمة للحرب، أو تحطيم وحرق الآلات الموسيقية من قبل بعض الفنانين الموريتانيين، وحرق أحد الحاخامات اليهود لجواز سفره الإسرائيلي... ومطالبة متظاهرين ماليزيين بوقف التعامل بالدولار وتبني مقاطعة انتقائية للسلع الداعمة للكيان الصهيوني، وغناء الفنان الأمريكي مايكل هارت من أجل أطفال غزة، وتحول قارب الكرامة للقطاع لكسر الحصار المضروب على أهل غزة، وخروج الأطفال المغاربة في مسيرات منظمة بشكل لافت للانتباه...إلى جانب الحملات الالكترونية المساندة لغزة، وأيضا المظاهرات المليونية التي خرجت في أكثر من عاصمة أوروبية وغيرها من أشكال رفض العدوان الهمجي المتواصل على قطاع غزة بشكل مباشر وعلى باقي الأراضي الفلسطينية بشكل غير مباشر...

في خضم اختلاف هذه الأشكال المقاومة طالعتنا إحدى قنواتنا التونسية ببرنامج هزيل تظاهرت فيه بالنصرة لغزة من خلال استضافة زمرة من أشباه الفنانين الذين لم يتقنوا حتى التعبير عن مشاعرهم بشكل محترم، والأنكى من ذلك أن منهم من لم يفرق بين الصهيونية واليهودية... هذا فضلا عن استنجاد احدهم بورقة كتب فيه أربعة جمل سردهم على مسامع المشاهدين... وطبعا لم يخرج منشط البرنامج من جلبابه القديم في استهلاك عبارات الشارع وحركات الرقيب المنضبط للقوالب والخطوط الحمراء...

إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح أمام مثل هذه البرامج يتمثل في مقاييس الاستضافة التي يعتمدها المنشطون في إعداد برامجهم، وأيضا سؤال التكريس الذي بات ينخر المشهد التونسي الإبداعي، ذلك أن الشاعر الواحد والرسام الواحد والعازف الواحد والمؤدي الواحد و و و... هم الذين يستأثرون بالموجات والأثير وببياض الصحف...

هناك أسماء جيدة تعرف كيف تتحدث عن القضية الفلسطينية، تعرف كيف تفك شيفرات العدوان الدائر بين الكيان الصهيوني وفصائل المقاومة، تعرف تاريخ انتهاك الأرض الفلسطينية وهي مؤهلة قبل غيرها للكلام في وسائل إعلامنا بشكل منهجي مقنع لا بشكل تهريجي مرتبك...

إن مقارنة بسيطة بالعديد من الفضائيات الفتية والمستحدثة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن فضائياتنا ما تزال بعيدة كل البعد عن الحرفية، وأن العمل فيها لا يحتكم إلا للعشوائية وللارتجال والفوضى... وستظل على حالتها تلك ما لم تحسن التوزيع العادل لفرص الكلام، او تحديدا التوزيع الجيد والمنظم للمتكلمين...