بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/12/17

عندما سمعني أدونيس أقرأ شعرا بالعاميّة قال لي أتمنّى لو أكتب بالعاميّة...

أنا لا أكتب الحوليات وأطول قصيدة أنجزها في ليلة واحدة...

كل ناقد يعتبر نفسه إلهًا يحيي ويُميتُ من يشاء...

أدين بجزء كبيرمن تجربتي الشعريّة إلى مدونّة الشعر التونسي...

عرفتهُ سماعا، ثم نصا، ثم احتككت به لماما منذ سنتين تقريبا الان اقتربتُ منه أكثر، لامستُ بعضا من روحه، من فكهه... تبيّنت قدرته الفائقة والعجيبة على حياكة صور شعرية وهو ينثر الحكايات العابرة...
صديق قديمٌ ومتجدّد للعديد من شعراء تونس، ومطلّع بشكل واسع على المدونة الشعرية التونسيّة... كثيرا ما زار تونس ليقرأ شعره واخر زياراته كانت ضمن استضافة من جريدة الشعب ليكون ضيف شرف على الدورة الرابعة لملتقى الشعراء النقابيين التي التأمت بمدينة سوسة...
هو صاحب احدى عشرة مجموعة شعرية هي على التوالي «واضحا، سلسا، غامضا» (99) ـ «الابحار والخوف»(99) ـ «ما بصالحْ» (99) ـ «سونيتات شاميّة» )2001) ـ «الأرض ترفع ساقها» (2002) ـ «الاســـماء» (2003) ـ «ذيب الشلايا» (2004) ـ «هذيان الجسد» (2005) ـ «حفيد النبات» (2007)ـ «قمصان اللجاة» (2007) ـ «ومائيل في وحامه الكنعاني» (2007)...
هو الشاعر السوري الدمشقي الشامي شاهر الخضرة...
كيف تقدّم تجربتك الشعرية او تحديدا كيف تصنّفها من داخل التجربة ومن خارجها ان صحت العبارة بعد عشرة مجاميع شعرية؟
ـ كوني بدأت بالنشر متأخرا اي في عام 2000 وبعد تجربة شعرية مرّ عليها ربع قرن لم انشر فيها كنت اكتب الشعر واحتفظ به في الادراج ولم اكن انشر منه الا القليل وأعتبر انني عشت مراحل شعرية في الربع قرن التي كانت صامتا فيها عن النشر.
اولا تلك التي ولجْتُ بها عالم النشر، نشرت قصائدي التي لم يُسمح بنشرها في فترة الثمانينيات، نشرتها كلها. وجدت نفسي ان تلك الحالات الشعرية السابقة والتي لن تعود كما كانت وضعت فيها حرارة الكتابة وان كانت اقل مستوى عمّا اكتبه الآن ولكن باحتكاكي بتجارب الشعراء العرب وغيرهم ممن التقيت بهم وجدتُ نفسي أنني عندما التقي بشاعر كأنما التقي باحدى حالاتي السابقة فيكون لقائي باعثا لحالة عشتها سابقا أو لنقل قادحا لفترة ما عشتها، فلمّا أخذت بالكتابة مثلا حول مخيال الاساطير في بلادنا الكنعانية والسومرية وجدت أن القصائد التي كتبتها ولم أنشرها في الماضي كأنها بذور لا تصلح لأن تكون مشروعا شعريا ولكنها تصلح لأن يُعتنى بها لتنمو بنفس الارض التي بُذرت فيها ولكن بمناخ يلائمها بعد اثراء التجربة، فوجدتني أكتب القصيدة مستخدما هذه الاساطير دون ارباك لتلك الافكار... يعني صرت قادرا أكثر على «شعرنة» تلك الاساطير فمنها ما أتقمصه وصار لدي جرأة كبيرة على الأسطورة والتراث وان كان دينيا فأقول ان مرحلتي السابقة هي مرحلة ارهاصات البذور عندما حان موعد قطافها جاءت بشكل طبيعي وكأني ولدت للتو، وكأني شاعر لا يعترف بالزمن فكل قصيدة هي عمرٌ بحاله وهذا لا ينفي ان لكل قصيدة عمرها الطبيعي، عمر كتابتها وعمر قراءتها وكذلك عمر نشرها... وأستغرب أحيانا من فكرة الاجيال في الشعر، السبعينيات الثمانينيات او التسعينيات في الحقيقة وبرأيي الشخصي لو قرأنا مثلا قصائد نزار قباني التي كتبها في الاربعينيات والخمسينيات والستينيات فهل يمكن لنا ان نقول انه شاعر من جيل الاربعينيات مثلا؟!! ام انه تجاوز بقصائده كل الاجيال وكأنه كتب لعجوز في ذاكرتها ولصبية نهدتْ للتوّ وبهذا فالشعر الحقيقي منفلت من الزمن ومن التجييل...
أصل الى القول، وربما لأناقض نفسي فيما قلته، أن القصائد التي كتبتها بعد احتكاكي بالتجارب الشعرية ولا أقصد قراءة وانما اقصد احتكاكا مباشرا بالشعراء هي التي جعلت قصائدي أكثر غنى من القصائد التي كتبتها وانا منعزلٌ بين الكتب وأكتب فيها ما يكتنفني مرّة ممّا أقرأ ومرّة ممّا أعيشه معتزلا...
كلامك الأخير يفترضٌ أن تحتك برامبو مثلا أو إليوت او المتنبيّ او المعريّ؟
ـ انا اقول في هذا تأثري فيما كنت اقرؤه كان واضحا وحقيقيّا أيضا ولكن كنت اقرأ وأتأثر وأكتب القصيدة من خلال القراءة والتأثر انما عندما سنحت الفرص لي بأن ألتقي بشعراء عرب وغير عرب وهؤلاء أيضا ممّن قرؤوا رامبو وإليوث والمتنبي والمعرّي وغيرهم من كبار الشعراء فأضيف لي تجربة اخرى متأثرة فأستفدتُ من حالتين أو أكثر من حالة، مرة من تأثري ومرة من تأثره فعندما أستمع لشاعر اعرف كثيرا من مصادر قصيدته كما أعرف مصادر قصيدتي مما جعلني اضع قصيدتي في عدّة معايير: كيف تأثرت أنا وكتبت وكيف تأثر هو وكتب فأجد نفسي اضعف احيانا فيما تمخضت به تجربتي إن من حيث الاسلوب او الشعرية قياسا بهذا الشاعر الاخر الذي اجده حاز السبق او نال حظا اكبر من حظي وتمخض نتيجة تأثره فأنتج قصيدة اجمل من قصيدتي وهذا ما يحفزني لاعيد النظر في بعض مما كتبت لأعمّقها أكثر وبهذا كنت أقول دائما كل من ألتقي به شاعرا او قاصا او روائيا او مفكرا اذا لم يضف لي شيئا جديدا فأنا لست بحاجة اليه لكي اضيع وقتي، لان هناك من الشعراء من تيسر لهم من الظروف ما لم يتيسر لي بأن التقوا بشعراء من العالم ومعرفة لغات كثيرة وأن يقرؤوا اضعاف ممّا قرأت ويتمتعوا بذاكرة حيّة وحس أرهف لالتقاط في الكثير من الاحيان ما لا أنتبه له، وعلى سبيل الذكر انا مثلا قرأت زوربا كما قرأها الكثير من الكتاب والقرّاء واجتمعت بأصدقاء ممن قرأها واخذنا نستحضرها فوجدت ان كل ما يذكرونه موجود في خزائن ذاكرتي دون ان انتبه أو افكر بحفظ تلك الجمل القوية فشعرت كأنني قرأت ونسيت والان جاء من يذكرني بما نسيت وهذ الامر ينسحب على العديد من الكتب...
أذكر مرة كنت في أمسية شعرية لشاعر كبير تربطني بشعره سنوات طويلة من القراءة فقد تأثرت بقراءته للقصيدة وطريقة القائه فظننت انها قصيدة من قصائده الجديدة التي لم اقرأها من قبل وعندما سألته قال عاتبا كيف تسألني هذا السؤال وأنت تقول انك قرأت ديواني ثلاث مرات المنشورة به القصيدة، أي أعني ان القراءة وحدها كثيرا ما اعتبرتها كالطعام آكل لأسٌد جوعي ولا اعرف بماذا احتفظ جسمي وما طرح من الآكل...
في صدد تجربتي الشعرية، ربما لانها مختلفة باختلاف حياة صاحبها عن باقي الشعراء، انا مثلا لا اعيش في اجواء شعرية مدى عمري، عشت مع العمّال سنوات من عمري،، ولا اقصد العمال المرتبطين بتنظيمات او نقابات فيها شيء من الايديولوجيا والثقافة العمالية بل عمال فحسب عشتُ مع السائقين... مع التجار حيث عملت في التجارة أكثر من عشرين سنة و كنت تاجرا ناجحا ووسط التجارة لا مجال سوى التفكير في المال والربح، كذلك مع الطبقة البسيطة من الفلاحين عشت ايضا لا شيء يُذكر سوى هموم الحياة الشخصية وإن اهتموا فبنوع من الحماس لبعض القضايا الوطنية وتنتهي، بينما كنت انقل حياتي مع كل أصناف الناس الى الورق لأجعل منها مادة ادبية. دون ان افكر في يوم من الايام ان اقرأ لهؤلاء قصيدة من قصائدي بل كنت اتحين الفرص ـ وما اقلها ـ لأقرأ ما كتبت على بعض الاصدقاء القلة حين التقيهم وربما يمر العام والعامان ولا ألتقي أحدهم فأكتفي بارسال نصوص لهم كرسائل شخصيّة وتنتهي المسألة بجواب على رسالة لا أكثر ولا أقل.
لكن بعد أن هيأت لي ظروفي الماديّة ان أتفرّغ للشعر قراءة وكتابة منذ عام 1999 تقريبا وبدأت بالسفر والسعي الى ألتقي بشعراء قرأت لهم منهم من كان اسمه يشغل الدنيا كأدونيس مثلا ومنهم من اعتبرهم مثالا لي في الشعر، بعد ان تم لي ذلك كانت الخسائر اكبر من الربح لانني شخص حساس جدا وقد يزعجني اي موقف فيه غرور من كاتب او شاعر وما أكثر تلك الامراض في كتابنا وشعرائنا فالكثير من هؤلاء يحبّون ان تكون دائرا في فلكهم أو مريدا لشعرهم وعليك ان تسجد لنجوميتهم أولا وتقر لهم باوليتهم وتميزهم حتى يقبلوك كمريد وهذا ـ كنت بسبب حياتي البعيدة عن هؤلاء ـ ما لا أستطيع أن أقدمه لاي اسم مهما علا شأنه وأذكر أنّني ركبت الطائرة على حسابي الخاص وذهبت الى بلد عربي كان يحتفي تكريما لشاعر كبير، وجلست اسبوعا كاملا أتابع نشاطات الشاعر وأمسياته ولكني ربأتُ بنفسي ان اقدم نفسي له وان اعرّفه إلى نفسي فرضيت بما كنت أرضى به من قبل أي بشعره فقط وأعتقد أنني لم أحبه شخصيّا ولكن هذا لم ينقص عندي من قيمة شعره وصرت بعده أقول أن الكثير من الكتاب كتبهم افضل منهم.
هذا في الجانب السلبي ولا ينسحب على كل الشعراء فهنالك كتاب وشعراء كبار لا يجبرونك على أن تبذل نفسك لتكون صديقا لهم والصداقة ليست مطلبا من طرف واحد فحسب بل هي من طرفين..
باعتبارك تكتب باللهجة العامة وفي نفس الوقت باللغة الفصحى كيف توازن بين الشكلين او الاسلوبين خاصة من ناحية بناء الصورة الشعرية وايقاع القصيدة؟
ـ صديقي ناجي مرّة قال لي أدونيس ـ وكنا معا في السيارة ـ بعد أن سمع مني قصيدة باللغة الدارجة، قال لي أتمنى لو كنت اجيد كتابة الشعر باللغة الدارجة وهو المعروف بموقفه الرافض للغة العامية وبتشدّده للغة الفصحى عندما قال لي هذا قلت له والله اني كنت اتمنّى أنني لا أعرف الكتابة في اللغة الدارجة وقصدي تلك المعاناة التي اعيشها في التشظي بين اللغتين وأعني أنّني لا اعرف مصدرا معرفيا ثقافيا شعريا باللغة الدارجة فكل ما اعتمدت عليه في حياتي كان عن طريق القراءة بالفصحى ولم أحصل من اللغة العامية سوى ما عرفته من المتحد الاجتماعي الذي عشت فيه طفولتي وجزءا صغيرا من شبابي الاول لأنني غادرت ذلك المتحد الصغير وأعني بها قريتي، غادرتها ولم أتجاوز العشرين من العمر الى مجتمعات عربية مختلفة في لهجاتها عن لهجة القرية التي عشت فيها مثل ليبيا وليس ليبيا الشمال وانما اقصى الجنوب وتحديدا في منطقة فزّان الليبية ومنها الى عمق الصحاري السعودية وليس المدن، وذلك لسنوات تفوق ماعشته في قريتي مرّة ونصفا على الاقل الا أن تلك الجذور القوية للغة الدارجة التي تجذرت في داخلي أبت الا ان تكون الاقوى فمثلا كنت اقلّد بسهولة طيلة عيشي في ليبيا اللهجات المحلية وكذلك في السعودية كنت اقلد اللهجات الخليجية ما عدا ثلاث حالات حين اكون غاضبا وحين أمارس حالة عشق وحين اكتب الشعر... في هذه الحالات تمحي كل اللغات واللهجات التي اكتسبتها وتطفو على تلقائية اللغة التي ولدت بها وفيها.... اقصد لهجة اهل القرية.
يعني هذا انك لا تتكلف اللغة وأنت تنتج قصيدة ما بمعنى انك تكتب ما يطلق عليه قصيدة الحالة؟
ـ لأكن صادقا في الاجابة عن سؤالك هذا بالنسبة لي قد يعتبره الاخرون او من قرأ لي ان هذا القول غير صحيح بسبب صعوبة اللغة وصعوبة اقتناص المعنى والاحاطة به في كلتا القصيدتين، الفصحى والعاميّة واجابتي عن هذا السؤال ببساطة انني لا اتكلم اولا أكتب القصيدة من لغة خام، فأنا استطيع ان اقول ودون غرور انني قرأت من الكتب قديمها وحديثها، وما وجدتُ لنفسي منهلا اكثر من الكتب الصعبة وربّما هذه القراءات تنعكس في قصائدي، أجدها بالنسبة لي امرا طبيعيا وغيري قد يجدني ناحتا او متكلفا وانا لا اكتب الحوليات من القصائد فأطول قصيدة كتبتها انجزتها في ليلة واحدة سوى بعض المطولات التي احتجت لليلتين او ثلاث.
قلتُ انك نهلت من الكتب الصعبة، وسأفترض ان هذه الكتب الصعبة هي كتب المتصوفة مثلا والكتب الفلسفية وربما ايضا الكتب التي ترصد حركة الاساطيرفهل يعني هذا أنّ مدونتك الشعرية تستند لهذا المنحى الصوفي والفلسفي والاسطوري؟
ـ الاجابة بكل تأكيد نعم، كثير من القصائد التي كتبتها اثر تلك الكتب التي قرأتها، ولا اخفي عنك، فقد كتبتها احيانا في الفصحى واحيانا في العاميّة، وكتابي «سونيتات شاميّة» يحتوي على تسع قصائد تحت هذا العنوان كلها إمّا من المخيال الصوفي او الاسطوري او من الفكر الانساني، وسمعت من اناس من بيئة لغة الدارجة يقولون لي لماذا تصعّب علينا حتى الشعر العامي واصبحنا لا نفهم قصائدك رغم انها مكتوبة بلغتنا الدارجة، وجوابي بكل بساطة تلك هي لغتي التي وصلت اليها ولم اصل اليها بسهولة فلا تقرؤوا شعري بسهولة...
لدي قصيدة في العامية عنوانها «خرير الماء» ترجمت الى عدّة لغات أجنبية مع قصائدي الفصحى لم يسألني قارئ بتلك اللغات ممن التقيت هل هذه قصيدة كتبت بالفصحى وتلك بالعامية لانها وصلت الى تلك اللغات كما يصل الشعر الصافي الى اي لغة اخرى بينما في ربوعنا مازال من يقول لمن تكتب قصيدتك العامية ولماذا هي صعبة وغيرها من الاسئلة التي تنتجها مفاهيم ابناء جلدتنا للشعر وكأنّه، أيّ كأن مفاهيمهم هي الشعر.
ومن المفارقات العجيبة ان قصائدي العامية وجدت آذنا صاغية ومحبين في غير بلاد الشام التي اكتب بلهجتها كمصر مثلا وكذلك دول المغرب العربي فاستغرب كيف يتقبل المتلقي المغربي شعري العامي ويعتبرني على أساسه شاعرا بينما الشعراء السوريون يضعونني بين قوسين حينما اذكر كشاعر.
لماذا لم تأخذ مدونتك الشعرية حظّها من النقد بشكل كاف؟

ـ لا بشكل كاف ولا بأي شكل. ما كتب عن شعري لا يتعدّى قراءات بسيطة أو تقديمات لدواويني. أعتقد ان اهم ما كتب كان تقديم المنصف الوهايبي لكتاب «الارض ترفع ساقها» وكذلك ما قدمه حاتم الفطناسي عن كتابي «الاسماء» وأيضا ما كتبه مصطفى الضبع عن كتابي «هذيان الجسد».
اما كدراسة نقدية فقليل ولايتعدّى بضع مقالات إلاّ أنّني استثني من هذا ما كتبه اصدقائي على الشبكة العنكبوتية وهي قراءات أعتبرها مهمة جدا كالكاتبة والشاعرة الصديقة عائدة النوباني والشاعر الصديق خالد الجبور والشاعر الكاتب أحمد ابراهيم وكذلك ايضا قرأت مقالتين نقديتين لرجلين لا اعرفهما شخصيا كتبا نقدا في قصيدة بعينها وهما من أهم من كتبوا عنّي.
ألا تعتقد ان حركة النقد الشعري قد ساهمت بشكل كبير في تحجيم المدونة الشعرية مقارنة بباقي الاجناس الكتابية؟
ـ انا أقول غير ذلك وربما فيما اقوله اتفق معك فيما طرحته في كل ما قرأت من نقد واقصد في النقد ما بعد التسعينيات يكتب الناقد وهو يظن نفسه إلها يُحيي ويميت فمن اقر له بالعبودية بك من الاشكال فسيحييه في نقده ومن لم يقر له بتلك الالوهية المزيفة فسيمحوه وكأنه يميته هذا عن الشعراء الذين يكتبون الشعر ولا مصلحة للناقد في الكتابة عنه اما ان كان هناك مصلحة فاعتدنا ان نرى الناقد يصنع من الزبيبة خمارة ومن الحبة قبّة!!!
وعلى سبيل المثال فقد قرأت لناقد تونسي نقدا يتجاوز عشرين صفحة ـ والله خمسين صفحة كاملة ـ في قصيدة لشاعر ليس تونسيا بالطبع ولا تسوى تلك القصيدة مثقال ورقها لكن الشاعر صاحب مجلة تدفع بالدولار وتحته كرسي قوائمه من النفط وتساءلت في نفسي اين هذا الناقد من الشعر التونسي ودون ان اسمّي الشعراء في تونس وانا اعتبر ان هؤلاء الشعراء لا يمكن ان تقارن قصائدهم باي شكل من الاشكال بقصيدة ذلك الشاعر النفطي.
وبسياق آخر ايضا في كل ما قرأنا ونقرأ من نقد نجده محدودا في تجارب الرواد وإن جنح قليلا الي تجارب ما بعد الرواد فهو جنوح خجول، وحتى لو كتب النقاد ضد شاعر من الشعراء الروّاد فإن نقده يظل يدور في نفس الفلك، وحتى الرسائل الجامعية التي ينال بها الطلاب شهادات عليا أكثرها حول شعر الرواد ايضا والاساتذة الذين جاؤوا بعدهم لان حالة الابهار للاضواء ظلت هي الطاغية فتجد النقاد سواء كان متخصصا ام دارسا لينال شهادة هو ايضا يريد نصيبه منالضوء فذهب اكثر الشعر الى العتمة وبقي من في الضوء لا يرى سوى نفسه.
انا مثلا أحب الشاعر محمود درويش وحزين ومتألم مثلي مثل كل من حزن وتألم وبكى على رحيل الشاعر المبكر رغم انه رحل وهو في قمة مجده الشعري، لكني أقول من الناحية الشعرية الجوهرية علينا ان ننتخلص من الحزن مع مرور الزمن وننحّي عاطفتنا سواء كانت الشخصية او التعاطفية مع تجربة درويش كشاعر قضية انساني، أي علينا ان نأخذ نفسنا ونستعيد ثباتنا العقلانيونجرّد الرجل من مفهوم اسطرته لنقرأ شعره ونحن على مسافة من تأثير الحالات العاطفية السابقة فنصل الى نتيجة خدم العشر الحقيقي سواء كان ذلك في صالح شعره كليا او في صالحه جزئيا لان العين لا ترى نفسها وهي تبكي.
على ذكر محمود درويش الا تعتقد ـ كشاعر ـ ان رحيله سيزيح غمامة عن اكثر من شاعر؟
ـ انا اعتقد غير ذلك لان هذا الكلام ينطبق فقط على من كانوا يعتبرون انفسهم في الشعر مظللين باجنحة محمود درويش ولكن الشعر العربي بأفقه الواسع والاكبر كثيرا من تجربةشاعر واحد فلا يمكن لي ان أجعله في ظلّ غمامة درويش لان تجربة درويش عند الشعراء الحقيقيين لا تتعدّى ابعادها من الناحية الشعرية فهؤلاء يعنون بالشعر لا بالاسباب التي جعلت الاسم محلقا في الكون وهي اسباب احدها الشعر وليس كلها فانا مثلا لو اخذت شاعرا كبيرا اخر ونظرت اليه كتجربة لا يبهر العالم بشيء آخر غير الشعر لوجدت ان ذلك الشاعر رغم أنه واجه العالم اعزل من كل دعم لوجستي أو نفسي او عاطفيّ ووصل الى أكثر من خمسين لغة فأنا حينها اقول هذه شاعرية خاطبت الانسان من داخلها، وهذا لا يعني مقارنة او مفاضلة بين تلك التجربة وبين تجربة درويش وكما سبق وقلت نحن بحاجة إلى ان لان نأخذ وقتا كافيا لنعود هادئين مطمئنين ونضع تلك التجارب الشعرية ذات الاهمية في تاريخنا المعاصر تحت أعين بصيرة في الشعر الصافي فحسب.
باعتبارك قريب من المشهد الشعري التونسي، حضورا وقراءة، كيف ترى ملامحه العامة وهل هناك تحولات عميقة في المشهد عموما؟
ـ قبل أن أجيب عن هذا السؤال أقول أن ما ينقص الشعر التونسي هو ما ينقص الشعر العربي عموما وهو مسألة ايصال الشعر خارج النطاق المحلي.
أنا ربّما بظرف شخصي استطعت التواصل مع الشعر في بلاد المغرب عموما ومع تونس بشكل خاص وقرأت لاغلب الشعراء واعتبر ان هنالك فارقا وتطوّرا حقيقيا بين ما كتبوا في الثمانينيات وفي التسعينيات وما كتبوا به الان واقصد جيل من اصبح في الستين من العمر او الخمسين ايضا.
وما ألاحظه ان تلك التجارب تحولت للكتابة بالدُّربة والحرفة اكثر منها في حرارة الدفق الشعري التي كانوا يكتبون بها في دواوينهم السابقة وربما اكثر الشعراء ينطبق عليهم هذا القول سواء في تونس او في غيرها، وأرسل استغرابي لمن يمثلون المشهد الشعري ان في تونس اوفي غيرها كيف ينسون ما عانوه حتى وصلوا الى ما وصلوا إليه من تجاوز عقبات ما يُسمّى اسماء طاغية بحضورها في المشهد الشعري العربي عموما والمغاربي خصوصا فاكتفوا بانفسهم وتركوا الآخرين من الاجيال الاصغر ثم الاحدث تعاني نفس ما عانوه من التجاهل والتهميش وربما المحو تماما وعلى سبيل المثال تعرفت الى كاتب كنت سمعت عنه كثيرا واعتقدت حين جلست معه أنه سيكون بفضل تجربته الغنية واتصاله بالشرق والغرب افضل حالا في التعامل مع الآخر كاتبا او شاعرا الا انني لم اسمع منه سوى احتقار تجارب الكتاب الاخرين وان ذكر كاتبا بخير فيكون ذلك الكاتب غير مستطاع ان يطفئ ضوءهُ!!! فهل هذه حالة ذاتية ام حالة عامة؟
اعتقد ان النجوم صغيرة كانت ام كبيرة هي نجوم مريضة الضوء وهذا عنوان لقصيدة كتبتها قبل سنتين من حالة مماثلة.
لك البياض المتبقي...؟
ـ في الختام اقول إنني أدين بجزء من تجربتي الشعرية للشعر التونسي الذي قرأته وأتمنى للتجربة الشعرية التونسية أن تزيدني ثراء وللحق في التجارب الشعرية الشابة ما أضاف لتأثري بتجارب الشعراء الكبار.

إيران بين نجاد المحافظ ونجاد الثائر

في احدى الخطابات التعبوية الحماسية، قال الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد " إن تغيير النظام التعليمي العلماني المهيمن على جامعاتنا منذ 150عاما سيكون صعبا، إلا انه علينا أن نقوم بهذه المهمة معا" داعيا طلاب الجامعات الإيرانية للاحتجاج على الفكر الليبرالي وعلى الاقتصاد الليبرالي باعتبارهما لا يوليان أية أهمية "لهويتنا"، قائلا لهم "على الطالب أن يحتج على رئيس الجمهورية لمعرفة لماذا لا يمنحه أستاذ جامعي علماني نقاطا كافية لطالب لا يشاطره آراءه".
إن مثل هذا الحشد الاصطلاحي الذي رصفه الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد ضمن خطاب لم يتجاوز زمنه أكثر من نصف ساعة -على أقصى التقدير- والحماسة المفرطة في تعبئة فئة بعينها من الشعب الإيراني، وهي الفئة الأكثر تذبذبا ( طلاب الجامعات والمثقفين عموما) والمنتمية إلى الطبقة الوسطى أو إلى البورجوازية الصاعدة، وان مثل هذا الطرح "الراديكالي" واستيقاظ الحاسة التاريخية فجأة لدى أحمدي نجاد المحافظ المتشدد بشأن الفكر الليبرالي وبشأن النظام التعليمي العلماني، يجعلنا نتوقف بكثير من التريث والتثبت فيما تلفظ به نجاد المحافظ أمام شعبه الذي سيصوت له لاستمرار حكمه من جهة ، ومن جهة ثانية نجاد الثائر الذي يركب موجة التحدي أمام إمبراطورية الشر المتمثلة في أمريكا (الشيطان الأكبر حسب تعبير نجاد) والكيان الصهيوني ومن حالفهما.
وإذا كان توقفنا عابرا وغير مستفيض، فان نقاط الاستفهام والإشارات التي سنوردها لها ما يكفي – ولو نسبيا – لإعادة النظر في صدقية هذا الخطاب التعبوي وفي مشروعية وقابلية تحقق هذا الطرح "الراديكالي".
فلو أردنا في البداية، تصنيف خطاب احمدي نجاد أمام طلبة جامعة طهران تصنيفا تاريخيا، فإننا سنصنفه ضمن تيار "الرفضية الفكرية"، هذا التيار الذي تغدي أكثر في فترة صراع النهضة العربية بين شقيها التوفيقية الإسلامية من ناحية والعلمانية المسيحية من ناحية ثانية، وهو تيار قام أساسا بموجب وجود منبهات/صدمات حضارية غير إسلامية وغير عربية، بمعنى أن التغيير الذي يدعو له احمدي نجاد ليس تغييرا نابعا من الداخل وليس مطلبا إيرانيا صميما بقدر ما يمثل رد فعل انفعالي مثار من الخارج، مثله مثل فكرة "الثورة الإسلامية الإيرانية" مع من سبقه.
كما أن هذا التيار الرفضي ينطلق أساسا من موقف أيديولوجي قائم على قطبي (ضد/مع) وهو بالضرورة لا ينسحب على الواقع الإيراني وعلى متطلبات الشعب الإيراني، أولا لنزعته التدميرية والفوضوية، وثانيا لأن كلام أحمدي نجاد بخصوص العلمانية كنظام تعليمي يكشف لنا نظر ميكانيكية لتحديد طبيعة الصراع القائم بين إيران تحديدا والعالم الإسلامي عموما من جهة وأمريكا تحديدا والعالم الغربي عموما من جهة ثانية، وهو بهذه النظرة يدور داخل سياج دوغمائي مغلق وسلبي.
أما السؤال الذي يطرح بإلحاح في خضم هذا الاحتشاد الاصطلاحي في خطاب نجاد، هو أية علمانية يبتغي الرئيس الإيراني أن تغيرها جماهيره الطلابية؟
أهي "العلمانية المسيحية" التي جلبت معها الفكر الاجتماعي التطوري الاشتراكي والنزعة اليسارية المبكرة في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات؟ أم هي "علمانية محمد عبده" التي انبنت على نزعة قبولية وروح مهادنة شبه مطلقة للفكر الأوروبي ولمقولات اللورد كرومر؟ أم هي "العلمانية التوفيقية" التي تولدت مع الأفغاني والكواكبي كامتداد لمحمد عبده؟ أم أن احمدي نجاد يقصد "العلمانية الأوروبية" المتجسدة في تجربة تركيا الكمالية؟ أم هي "علمانية علي عبد الرازق" المتجلية بالخصوص في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"؟ أم "علمانية طه حسين" في كتابه "الشعر الجاهلي" الذي اعتمد في متنه على منهج الشك الديكارتي وعلى منهج النقد التاريخي الأوروبي؟ أم أن نجاد يعني "علمانية اليسار اللبناني" مع يوسف يزبك الذي اتخذ من تاريخ الأممية الثالثة (1919) تقويما جديدا بدلا عن التاريخين الهجري والميلادي ؟ أم انه يقصد "العلمانية القومية" مع ساطع الحصري الذي أكد على أن قيام امة عربية غير مرتبط بالضرورة بمفهوم "دار الإسلام"؟...
إن الدكتور محمود احمدي نجاد هنا، لا يظهر لنا كرئيس دولة إسلامية له موقف فكري حاسم بشان النظام التعليمي العلماني بقدر ما هو يؤجج شعورا شوفينيا/ ارتودوكسيا يتلبس بلبوس حضاري ليدافع به عن تحد عسكري ومطمح حربي، كما أن ثورته الفردية – لا الوطنية – هي عبارة عن "ثورة فوقية" وليست "ثورة جذرية"، فهي لا تدعو لتأسيس خلايا ثقافية عمالية وتلمذية وطلابية... وإنما هي تدعو في أقصى "ثوريتها" إلى "احتجاج طالب على أستاذ جامعي علماني لا يشاطره رأيه"؟.
هذا فيما يخص مفهوم العلمانية وثورة احمدي نجاد المحتملة ضدها كنظام تعليمي تمتد جذوره إلى أكثر من 150 سنة في إيران، أما فيما يخص الفكر الليبرالي، فلا اعتقد أن نجاد يدعو طلاب جامعته إلى تقويض هذا الفكر على أساس انه "سلوك طبقي"، بقدر ما هو يدعوهم إلى تقويض الليبرالية – فكرا واقتصادا – باعتبارها موقفا مجردا.
فدعوته لتقويض الفكر الليبرالي باعتباره سلوكا طبقيا سيعود حتما عليه بالوبال من طرف المضطهدين الإيرانيين ومن طرف الإيرانيين الذين قمعوا وحرموا من حرياتهم الفردية والعامة. فاحمدي نجاد يظل بالأخير ليبراليا في نظام حكمه وبورجوازيا في سلوكه لم يمنح مواطنيه حرياتهم إلا بما يخدم مصالح طبقته (رغم انه من طبقة فقيرة أصلا) وهو لهدا يستعمل جمهور الطلبة كأداة ضمن صراعه السياسي ضد أمريكا وهو أيضا يطوع الاقتصاد الإيراني لبناء دولة عسكرية ستناوش أعداءها قليلا لتقمع شعبها كثيرا...
هكذا يظل محمود احمدي نجاد رئيسا إيرانيا بامتياز لا يختلف كثيرا عن الشاه الإيراني ولا عن الإمام الخميني، فهو مثلهما مليء بالتناقضات ومهووس بحلم العظمة والكاريزما الفردية ولو على حساب الشعب الإيراني بأكمله... ومثلهما يظل محمود احمدي تنازعه تارة "نجاد المحافظ" وطورا "نجاد الثائر" ليظل بالأخير الشعب الإيراني أمام الوجهين كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولو كان الشاعر الإيراني رزبهان الشيرازي حيا لأعاد قوله "هذا الجنون إلى المستحيل" أمام حماسة نجاد وتعبئته لطلبة جامعاته.