بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/09/01

الآكل والمأكول في تاريخ تونس المهول


استتنتج الكاتب الحرّ سليم دولة في خاتمة المدار الخامس والجرح الخامس من كتابه «الجراحات والمدارات» والموسوم «بالمهول في أخبار الانسان الآكل والانسان المأكول»، استنتج أنّ منظومة العلاقات المُغَلَّفَةِ بالقداسة أخرجتنا من أفق «الأقربون أولى بالمعروف» الى أفق «الأقربون أولى بأن نأكلهم» مؤكّدا أنّ هذا الأفق جمع وجع جوع الفقراء مع الحاجة النفسية للمياسير والمساتير في استطابة أكل اللّحم الآدميّ المُعدّ بالتّوابل الجيّدة!!!
ولئن فتح سليم دولة امكانية الاقامة في تساؤل من منّا الآكل ومن منّا المأكول ومن سيؤرّخ للخبر المهول بعدنا؟ فإنّي سأنزل من عرشه الفلسفي وأفقه النّظري وأترجّل قليلا مع الغادين والرّائحين في شوارعنا وأزقّتنا وداخل وسائل النّقل وفي المنازل والادارات والمرافق العموميــة التي يلتقي فيها المواطنون والمواطنات لتصريف شؤون البـلاد، سأترجّل معهم في هذا الشهر، شهر القداسة، لأحاول ـ بمنطق بسيط ـ أن أكشـف من يكون الآكل ومن يكون المأكول ومن سيؤرّخ للخبر المهول بعدنا ؟!طبعا الأكل الرمزي هو الذي سنقف على مظاهره وهو في نظري أشدّ بشاعة وفضاضة من الأكل المادي.أمّا الآكل فهو لامحالة التونسيّ والتونسيّة، الفقراء منهم والمياسير كذلك، وأمّا المأكول فهو أيضا التونسيّ والتونسيّة الفقراء منهم والمياسير بدرجة أقل، وأمّا مؤرّخ هذا الخبر المهول فهو ليس مجهولا وليس معروفا أيضا ولكنّه يبقى بالأخير تونسيّ صميم، قد تكون شوارع تونس، وقد يكون تاريخها... أو هو مستقبل أيّامها...معادلة الأكل والمأكول نلمس ملامحها لدى البائع الذي يغشّ الزّبون ونلاحظها لدى السائق الذي يشتم ويسب ركّاب الحافلة العمومية، نراها لدى الولي عندما يصبّ جام غضبه على الأستاذ والمعلم لا على ابنه، نجدها عند الأبناء وهم يلعنون آباءهم لفقرهم وقلّة أموالهم، نجدها عند موظّف الادارة يأتي متأخّرا وينصرف باكرا دون أن يتقن عمله، ونجدها عند المواطن وهو يقدّم الخمسة والعشرة لقضاء حوائجه قبل غيره... الكل يأكل في الكل مثل الحديد... نحن شعبٌ نأكل بعضنا البعض بشراهة ولذّة كبيرتين، نرمي بكل خساراتنا وأتعابنا على بعضنا البعض كل من موقعه وكل حسب جوعه... ننهش فقرنا وأخلاقنا وأجسادنا... أو على حد تعبير الشيخ امام عيسى «غَابَة كلابها ذيَابَة نازلين في النّاس هَمْ، واحْنَا يا ملح الغَابة هَمْ بِيَاكُل هَمْ...هَمْ..هَمْ...»إنّ أخبار الأكل التي أوردها سليم دولة ـ على رمزيتها ودلالتها ـ لا تمثّل إلاّ جزءا من تاريخ البشرية، أمّا أخبار الأكل لدينا نحن «التَّوَانسة» فهي عادة طبيعيّة تتغذّى كلّما زادت حدّة التفاوت... كلّما ازدادت الموائد الملكيّة نهمًا وكلّما تكاثرت مقابر الأرجل المتعثّرة في الشوارع والأزقّة، في الدّواخل والسواحل، في البراري والصّحاري... عندما ينتهي الحديد من أكل بعضه البعض سيصيبه الصديد فيتوقّف محرّك البلاد لتسجّل ساعتئذ أخبار المهول في الأكل والمأكول، وتقفُ البلاد على فُتات شعبٍ حتّى الكلاب ستزعفه...