بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/08/27

معاريج السجود

إن كان حقا أو خيالا فهو وثب للضياء
وتحرر مما جناه طين ادم في الدماء
إبراهيم ناجي

************
وجه أصفر كالح منتصب فوق هيكل عظمي يكابد بضع كيلوغرامات من لحم ادمي متيبس. عينان غائرتان في محجريهما يتناوب على بياضهما جفنان ثقيلان ونظارة سميكة. اضمامة أعواد عشرة يابسة هي أصابع اليدين الممدتين فوق الطاولة البنية المتهالكة. كل ضلع فيه يابس كالح ينبئ بالفناء. وحدها جمجمة الرأس كانت مرجلا تغلي بعنف ولا تطبخ إلا الأنفاس الحارقة، ووحده مشهد الدم القانئ يغمر العينين كلما ارتفع الجفنان.
دم متجمد على الجدران. يسيل فوق الطاولة. يتخلل سيقان الكرسي. يلطّخ الأوراق المبعثرة من حوله ويغمر شاشة الحاسوب... دم غزير يندفع باتجاه المحجرين بلا هوادة أين ما نقّل بصره.
الجسد أصفر يابس والدم أحمر يتفجر مدرارا، والجمجمة مثل قطعة حبل شاردة وسط أودية الدم المتلاطمة.
وكما يحدث في القصص والروايات، عندما يحوّل الكاتب فجأة بطله ألورقي إلى شخص أسطوري وحكايته إلى أمثولة سرمدية، وبذات المفردة تقريبا، فجأة، تحولت شلالات الدم الهادرة إلى أشباح وخيالات آخذة أشكالا ورموزا وصورا مختلفة، تظهر على الجدار الأبيض الذي يقابله تماما. تتتالى مشاهد الدم سريعا ثم تتآكل واحدة اثر أخرى، وتتحلل رويدا رويدا لكأنها تسقط في جوف جبل عظيم. ظل مشهد واحد يتكرر كل مرة. قافلة عظيمة من الدواب تسير بتؤدة حاملة جرارا عظيمة مملوءة بالدم ذاته، وكان هو محشورا بين تلك الدواب، يسير على شاكلتها. يرفس الأوحال بمنكبيه وكوعيه، وعمود ظهره النحيل يكاد ينقصم لشدة ثقل الجرار المتماوجة دما.
وان حدث وسقطت دابة وسط الأوحال فإنها تتمرغ وتتخبط هنيهة من الزمن ثم تُداس بحوافر الدواب اللاحقة من دون أن يتوقف نسق السير، وتصير بعد رفسات غير كثيرة عجينة دم وطين. و كثيرة جدا هي الدواب التي تحولت إلى مثل تلك العجينة وخاصة منها تلك الهرمة التي لم تعد تقو على حمل جرار الدم، إذ تظهر في الدرب الطيني رؤوسها ناتئة وجثثها مرفوسة راسمة مرتفعات وتلالا صغيرة تزيد الدرب تعرجا أكثر.
كاد يفقأ إحدى عينيه بعظم إصبعه ليتثبت من هامته محشورة وسط جموع الدواب المتراكضة.
كانت الدواب تتدافع وتتصايح وتصطدم ببعضها البعض في اتجاه نقطة سوداء، كان رسمها يتوازى على الحائط مع ثقب مفتاح باب مكتبه. تسير الدواب حينا وتركض حينا آخر نحو مصب عظيم، غير آبهة بأوحال الطين التي تعلق بحوافرها كلما انغرست في الدرب المتعرج. تسير وتركض والدم يتناثر على مساحة الجدار الأبيض كلما كانت رفسة الدابة أقوى وأعنف. كانت رفساتها أعنف من وقع حوافر فرس حرون تخلصت من سلاسل مربطها.
ترفس الدواب طين الدرب المتعرج وتتناهى إلى مسامعه طقطقة الأغصان اليابسة وحفحفة الأوراق الجافة تنهرس بفعل الرفس العنيف فترف بروق خاطفة من الدماء فوق الجدار الأملس، فتلطخ بياضه وتلطخ ملابسه ووجهه والطاولة المتهالكة.
تتحرك اليدان في ارتعاشة محمومة باتجاه ثقبي الأذنين لينغرس وسط كل واحد منهما إصبع يابس عساه يُوقف تدفق الدماء. يطبق الشفتين بقوة غريزية حتى يعلوهما بياض شاحب، خشية فيضان الدم من بين الأسنان المصطكة. تكتسحه قشعريرة باردة وترتعد فرائسه خوفا من هيجان الدم الهادر تحت جلده الكالح. تعتريه حرارة حارقة أسفل بطنه، فيخنق عضوه التناسلي بكلى يديه ويمعس الخصيتين بشدة خوفا من أن يتبول الدم. يهصر بشدة إلى أن تمزق أظافره قماش السروال، فيتلمظ بلسانه الجاف سيول العرق النتنة تتفصد من جبينه وتتفجر عيونا غزيرة تحت إبطيه وتنز من ثقوب صدره وظهره لتبلل قميصه الأزرق الشفاف، فتفوح روائح عطنة في أرجاء المكتب.
يهرول نحو النافذة، يشرعها على الشارع الفسيح عله يتخلص من رفس الدواب وتدفق الدماء فيجف طوفان العرق المتفجر من مسامه. تلفحه نسمة خفيفة فتنتعش مفاصله. يبتلع ريقه المتيبس في حلقه بصعوبة ومشقة، ويجول ببصره على امتداد الشارع بمبانيه الشاهقة والمتشابهة، فتتبدى له آلاف النوافذ مشرعة والرؤوس الآدمية تتدلى من الطوابق العليا والوسطى ومن كل النوافذ والثقوب المفتوحة على الشارع الفسيح.
يُزلزل بلور النافدة وسط المكتب وهو يطبقها بعنف في وجه الشارع، ويعود إلى طاولته ليلفي وجهه من جديد في وجه الجدار الأبيض. تجول برأسه أفكار بليدة وتنهشه أسئلة حارقة ومندفعة اندفاع تلك الفرس الحرون: أيكون كل الموظفين غارقين في الدم ! أتكون ظهورهم قد انقصمت، وتدشدشت لثقل جرار الدم ! أتبولت أعضاءهم التناسلية دما متخثرا وانفلقت خصياتهم لشدة المعس!!
لم يكن لينتبه للصوت الأجش لحارس الإدارة يخبره أنه الموظف الأخير الذي لم يغادر مكتبه، لو لم يضرب الحارس البدين خشب الطاولة بقبضته. يستفيق مذعورا من دوار الأسئلة اللاذعة، وترتبك يداه لحظة تجميع أوراقه المبعثرة وترتيب قميصه وسرواله. لم يتمالك نفسه وهو على مدرج مبنى الإدارة ينط فوق الدرجات الرخامية بحركات بهلواني غير ثابت فوق حبل السير العالي. تنفرط اضمامة الأوراق من بين أصابعه المرتعشة وتتناثر أمام عتبات الطابق السفلي للمبنى وفي الرواق المفضي إلى باب الخروج، حيث تزدحم حركة الشارع بالموظفين العائدين من إداراتهم في مثل تلك الساعة.
كانت أوراقه كثيرة، ملفات مواطنين ومواطنات لم يطلع عليها بعد. أوراق أخرى لأبنائه كان قد سحبها من مواقع الكترونية مختلفة، حول اختراع المحرك البخاري وتاريخ الحيوانات المنقرضة، وأخرى حول مستجدات مسار السلام في فلسطين وتطورات الحرب على العراق اختارها ليجتر معلوماتها ككل يوم في انتظار أخبار الثامنة مساءً ... وثلاثة مجلات مختصة في الأزياء والمأكولات لزوجته. لم يتفطن لوضعه ذاك وهو يسقط بمنكبيه إلى الأرض ويلاحق الأوراق المتناثرة يمنة ويسرة وهي تبلغ رصيف الشارع الفسيح وتبدأ في الطيران مع هبات الريح في ذلك المساء. كانت رائحة قدميه تنخر أنفه وهو يركض على منكبيه وكوعيه خلف الأوراق المتناثرة. لم يأبه لسيره المتعرج فوق الرصيف المحاذي للأبواب البلورية للمؤسسات والإدارات المغلقة، ولا إلى هيأة الانحناء والتقوس التي لمحها منعكسة على البلور.
ظل مشغولا بتلويح يديه خلف الأوراق التي تتسرب بين أقدام الرجال والنساء المهرولين في اتجاه محطة الحافلات. يدس الورقة التي يقتنصها كيف ما اتفق في جيب سترته ويلاحق ببصره الورقة التالية. أنسته فرحته بتجميع نصف الأوراق المتطايرة طول المسافة بين إدارته والمحطة التي وصلها على أربع مثل عنزة شُغلت بمسرب عشب أخضر يحاذي مجرى واد أجرد.
كان وضعه مضحكا لدرجة أن الناس تركوا له المصعد الخلفي للحافلة فارغا ليصل إلى المتبقي من أوراقه التي زفتها الريح إلى المقاعد الجانبية داخل الحافلة.
عندما تحركت الحافلة كان قد جمع الأوراق التي استقرت لحين فوق المقاعد المهترئة، والتفت إلى الأوراق المتناثرة وسط الحافلة يلتقطها وهو على نفس وضع السجود الذي خرج به من أمام جدار مكتبه. كان يجمعها وسط الحافلة وهو يستلذ نفحات الدفء التي تغمره كلما لامس فخذا أو مؤخرة سمينة. يلتقط الورق بيد وبأخرى يعدل وضع نظارته السميكة عله يظفر بأطراف فخد أنثوي مكشوف من تحت فتحة أحد الفساتين. انشغل عنه الركاب بأحاديثهم الجانبية ونظراتهم الشاردة خلف بلور نوافذ الحافلة، التي بدأ محركها يكابد مرتفعات الطريق وثقل الركاب المزدحمين، الذين تتضاعف أعدادهم ساعة خروجهم من الإدارات والمؤسسات والمعامل والمصانع.
كادت محنته أن تنتهي ذاك المساء، عندما شارف على القبض على آخر الورقات المستلقية تحت الأحذية وبين الأرجل وسط الحافلة، لو لم يكبح السائق فرامل العجلات فجأة عندما باغتته بهيمة عرجاء تدب بتثاقل بليد عند أحد المنعطفات. كانت حركة السائق كافية لتُسقط أغلب الركاب الواقفين على مناكبهم وأذرعهم، وكان التعب والإرهاق الذي يعانونه من الصباح إلى المساء كافيا ليثبط عزائمهم عن الوقوف والاستقامة وسط الحافلة التي استأنفت سيرها، فظلوا هكذا سجودا يواصلون ثرثرتهم حول تبدل أحوال الطقس في ذاك اليوم، ويقذفون السائق بمختلف الشتائم واللعنات لسوء تحكمه في الحافلة.
كان سينهض من على منكبيه وكوعيه بعد أن بلغ آخر الورقات الطائشة، لو لم تسقط فوقه وبجانبيه أكوام اللحوم الآدمية وتصير مثله كالدواب المتناطحة بين أسلاك زريبة ضيقة. كان سينهض ويقف على قدميه لينزل من الحافلة ككل البشر، لو لم تبلغ هذه العلبة الحديدية اللعينة المحطة النهائية لخط سيرها.
عندما همد المحرك وانفتحت أبواب الحافلة الخلفية والأمامية لم يجد بُدا من تحمل الركلات ومقاومتها التي كانت تدك كل ضلع من جسده النحيل من مختلف الاتجاهات. ركلات طائشة من أحذية الرجال المعفرة بأوساخ الطرق والأزقة. وخزات لاذعة من كعاب أحذية النساء تستقر مرة على إسته وأخرى تحت كليته و ثالثة تكاد تفقأ إحدى عينيه. وهو يجاهد الركض خلف الركاب المندفعين على مناكبهم وأذرعهم نحو بابي الحافلة. لم يتنفس إلا عندما نط فوق درجتي الباب الخلفي كخنزير بري يهرب من طلقة طائشة.
لم تكن المسافة الفاصلة بين منزله والمحطة النهائية طويلة. لم يعد يقوى على تقويم عموده الفقري الذي اتخذ شكل السجود والانحناء مذ نزل مدرج إدارته، فلم يجد عيبا أو حرجا في قطع المسافة المتبقية، سيرا على منكبيه وكوعيه، وقد سبقه الكثير من ركاب الحافلة على أربع من الحافلة واصلوا سيرهم بنفس الوضع في اتجاه منازلهم فرادى وأزواج، منهمكين في أحاديثهم، متسترين بالظلمة التي بدأت تغطي السماء فوق ظهورهم المنحنية.
عندما بلغ باب المنزل مرفوقا بنباح الكلب الذي اعترضه في منتصف الطريق، تناهي إلى سمعه صوتُ تكسر عظام ظهره وهو يحاول رفع يديه نحو الثقب الأسود لقفل الباب، وشاهد خطوطا متعرجة لدم حار تسيل فوق العتبة الإسمنتية من ركبتيه اللتين تورمتا تحت السروال الممزق ومن راحتي يديه