بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/08/04

ريحة البلاد

لا أخال تونسية واحدة أو تونسيا واحدا، كبيرا كان أم صغيرا، يمكنه أن يتوه عن رائحة البلاد في جهاتها الأربع... رائحة الفل والياسمين تعبق في ضواحي العاصمة، رائحة السمك تتماوج على الموانئ، رائحة المواد الكيمياوية تخنق السماء في المناطق الصناعية والمنجمية، رائحة الحشائش تسري في الصدور على المرتفعات والجبال... رائحة البنزين في الطرقات السيارة وغير السيارة... رائحة الكتب القديمة، رائحة البن والخبز... وطحالب البحر وروائح العرق تسقي الأراضي الفلاحية...
روائحنا التي ننام ونصحو عليها... روائحنا التي كبرت معها حواسنا وصارت ألصق بنا من جلدتنا... نحب بعضا منها، نتقزز من أخرى ونشتهي البعض الآخر من تشكيلة الروائح التونسية الخالصة...
كل هذه الروائح وغيرها مما نسيت أو تجاهلت، كلها تعنيني وأحبها أكثر حتى من «باتريك زوسكيند» في روايته «العطر»... ومن دون استثناء فقد بتُ أكره وأمقت أغنية الراحل محمد الجموسي «ريحة البلاد» التي أصبحت النشيد الرسمي لمهاجرينا وعمالنا بالخارج... الكل في المطارات والموانئ التونسية يرفعها شعارا للتعبير عن شوقهم لتراب تونس ورائحتها... وأنا لا أتعارض مع أحاسيسهم تلك لأنني عشتها بالفعل وأعرف ما معنى غربة وسفرا وغيابا...
ولكن، يا عمالنا المهاجرين ويا من تدرّون العملة الصعبة ويا من عرفتم وشاهدتم تفاصيل الحضارة والحداثة... رفقا بنا عندما تؤوبون لأرضكم تقضون فيها اشهرا أو أياما معدودة... رفقا بشواطئنا وطرقاتنا... رفقا برائحتنا التونسية التي صارت تتبخر كلما عدتم... تتبخر بفعل استهتاركم في طرقاتنا... بفعل تفاخركم وتباهيكم المبالغ فيه واللامبرر... رفقا بشبابنا الذي تحرضونه ـ من حيث لا تقصدون ربما ـ على ركوب قوارب الموت... رفقا بجيوبنا تخرّبونها كل صائفة بالأورو... رفقا بأنفسكم فلن تسكنها الا الرائحة التونسية على عطنها ودبقها...