بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/07/05

حوار مع الباحث خالد الحداد


مؤلف كتاب «بورقيبة والإعلام» الباحث والصحفي خالد الحداد (الجزءالاول):

النضال النقابي عاضد السياسيين والمهنيين في فرض هامش أوسع للحرية الاعلامية

يعتبر كتاب «بورقيبة والإعلام: جدلية السلطة والدعاية» للزميل الصحفي والباحث خالد الحداد وثيقة مهمة للوقوف على الجوانب الخفية في تمثلات وكيفية ممارسة الرئيس الأسبق للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة للإعلام والاتصال.
فبحث خالد الحداد الذي نال به شهادة الماجستير في علوم الإعلام والاتصال نهض متنه على تدرج منهجي وعلى كم هائل من المعلومات والحقائق والوثائق المبوبة ضمن زاوية بحث الرجل المتمثلة في السياسة الإعلامية للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وخطته الاتصالية التي انتهجها قبل وبعد نيل الاستقلال التام وقد رفد خالد الحداد بحثه بجداول إحصائية وشهادات قيمة لوزراء وكتاب دولة وعاملين في الميدان الإعلامي من الذين عايشوا الفترة البورقيبية، وفيه أيضا انتقى الباحث اضمامة مرجعية لخطب ألقاها الرئيس الحبيب بورقيبة تناولت مسألة الإعلام والاتصال، إلى جانب نماذج من المقالات الصحفية التي نشرها الرئيس بورقيبة.
ونظرا لقيمة هذا المنجز التأريخي والتحليلي الذي ينضاف إلى المكتبة التونسية والعربية ارتأينا أن نقف مع الزميل الباحث خالد الحداد على أهم ما قدمه ضمن مؤلفه في هذا الحوار.

لو أني تركت الصحافة تفعل ما تريد لخرجت من الحكم في غضون ثلاثة أشهر» هل يمكن أن نعتبر مقولة نابليون هذه التي صدرت بها مؤلفك هي الخلاصة التي توصلت إليها في بحثك حول تعامل بورقيبة
مع الإعلام؟

ـ نعم ، هذا القصد موجود ، فرجل الحكم في أيّ نظام سياسي يسعى إلى الهيمنة والمسك بدواليب الشأن الإعلامي كسعيه للهيمنة على سائر الشؤون والمجالات حتّى يضمن سيطرته ويتجنّب وقوع أيّ نوع من القلاقل، فنواميس مختلف المجتمعات والشعوب والحضارات أقرّت هذا المدّ التسلّطي والرقابي من الدولة بمختلف أجهزتها ومكوّناتها وعلى اختلاف تلويناتها وتشكّلاتها على سائر مناحي الحياة الّتي هي تحت سيطرتها وفي حدودها الترابيّة والجغرافيّة، وليس الإعلام فقط هو المستهدف بالحصار بل كذلك مناحي الإبداع الفكري والثقافي والتنظّم الجمعياتي والسياسي وغيرها هي كذلك وستظل تحت أعين الرقيب.
والحالة تلك وخوفا من كلّ الانفلاتات والاهتزازات الّتي قد تقوّض كيان الدولة وتمسّ بسلطان الحاكم كان وما يزال الإعلام محلّ التضييق والخنق والتشويه والتوجيه، أنا هنا لا أُعطي حكما عامّا شاملا ولكن حتّى في الأنظمة الّتي تلحّفت برداء الديمقراطيّة والحداثة يُمكننا لو تفحّصنا مليّا التكوينة الإعلاميّة والاتصاليّة بها وطريقة دورانها أن نجد أثرا للدولة فيها وفي أيّ بلد من بلدان العالم سواء عبر التمويل أو الإغراء والرشوة أو الضغط الضرائبي أو غيره ، هناك مداخل عديدة للسلطة السياسيّة والتنفيذيّة حتّى تلج رحى العمليّة الاتصاليّة والإعلاميّة وتفعل فيها الفعل الّذي تشاء وتريد.
أمّا لماذا كلّ هذا التوجّس والخوف من الإعلام، فلأنّه قادر على كشف المستور واختراق التعتيم ونقل الأخبار والأحداث على نطاق واسع ، ولأنّه كذلك قادر على تحليل المعطيات وتنزيلها في سياقاتها الصحيحة ، بلغة أوضح الإعلام لمّا يكون حرّا بإمكانه أن يُشكّل الرأي العام ويضبط ثقافة الناس ووعيهم بالأحداث والمستجدّات، أي أنّه من هذا المنطلق بإمكانه أن يُهدّد وجود رجال السلطة والحكّام، لذا تعبّر مقولة نابليون إلى درجة كبيرة جدّا عن هذا المعطى الأساسي والهام.
الإعلام في منطلقه هو سلطة قائمة الذات أو هو يجب أن يكون كذلك، أي أنّه شيء آخر مختلف عن السلطات الأخرى الّتي عرفتها المجتمعات الديمقراطيّة الحديثة، وشيئا فشيئا لم يعُد مصطلح السلطة الرابعة معبّرا عمّا أضحى للإعلام من قوّة تأثير بالغة الأهميّة وسط هذا الانفجار الإعلامي والاتصالي الرهيب بل أصبح مجالا حيويّا واسعا تسعى كلّ القوى للسيطرة عليه والحدّ من تلك السلطة المتزايدة الّتي أضحى يمتلكها في التأثير على بقية السلطات التنفيذيّة والقضائيّة والتشريعيّة حتّى أصبح الإعلام على حدّ تعبير تشومسكي صانعا للإجماع الوطني وحتّى الإقليمي والدولي في كلّ المجالات والميادين.
والمخيف اليوم والمزعج حقّا، هو هذا التمازج بين السلطة السياسيّة وسلطة رأس المال، السلطة السياسيّة تعقدُ العلاقات والصفقات مع رأس المال وتضمن له مصالحه ومنافعه في مقابل أن يقوم هذا الأخير بالقبض على المقود الإعلامي، وأسألك هنا: من يملك اليوم السيطرة على الإعلام في العالم؟ لتجيبني بالتأكيد: إنّهم الرأسماليّون وكبار رجال المال والأعمال في العالم ومن ورائهم الساسة، يتبادلون الأدوار والمهمّات لغاية مشتركة هي السيطرة والهيمنة وحماية النفوذ.
وأُريد أن أُذكّر هنا بأنّني في نهاية بحث «بورقيبة والإعلام» وجدت نفسي أمام إشكاليّة بحثيّة جديدة، وهي: كيف يمكن لرجل السياسة أن يتمثّل مفهوما حداثيّا للإعلام والاتصال ويُترجمه في الواقع من خلال ترك المجال واسعا لحريّة التعبير والإعلام المستقلّ والحال أنّ ذلك قد يُقصيه عن موقع القرار والقيادة ويفقده الزعامة ويجرّده من كلّ «سلطاته» ؟ لأنّ سياساته وقراراته وممارساته ستكون حينها عرضة للنقد والتقويم والتحليل.

* هل يمكن أن نقول أنك بهذا المنجز حاولت أن تجيب عن سؤال الدكتور منصف وناس (كيف يمكن أن نقرأ بورقيبة؟) وسؤال الدكتور عبد الجليل بوقرة (من هو بورقيبة؟)؟

ـ ما أقوله أنّني أجبت عن السؤال الأوّل وقدّمت محاولة للإجابة عن السؤال الثاني، سؤال الدكتور منصف ونّاس سؤال يهمّ منهجيّة البحث بما فيها من آليات ونظريات ومراحل بحثيّة ، هذا قٌمت به في البحث حيث جمعت بين الدراسة التاريخيّة والبحث الوثائقي وتحليل مضامين الخطاب السياسي وعاضدتُ كلّ ذلك بمجموعة من الأحاديث مع وزراء وكتاب دولة للإعلام وصحافيّين عايشوا الحكم البورقيبي وأخضعت كلّ ذلك إلى مقاربات نظريّة دقيقة وواضحة وأقمت للبحث إشكاليّة محوريّة وعددا من الفرضيات منذ البداية مكّنتني من الوصول إلى ما توصّلت إليه من نتائج واستنتاجات، والمهمّ في هذا الجانب أنّ مسألة ذاتيّة ساعدتني على تطبيق تلك المنهجيّة العلميّة الّتي ينشدها الدكتور ونّاس وهي أنّني بعيد عن أيّ التصاق مصلحي وشخصي بفترة الحكم البورقيبي ، أي أنّني ولجتُ دراستي الجامعيّة بما فيها من وعي سياسي ونضج فكري وثقافي وتلمّس لخيوط البدء في هذه الحياة المتداخلة زمن انتهاء ذلك الحكم وبداية حكم سياسي جديد في البلاد وانفتحت على الحياة السياسيّة والإعلاميّة وكنت عاملا فيها بعد زوال حكم الرئيس بورقيبة، هذا مهمّ جدّا ليست لي أيّة صلة بالمرحلة الّتي درستها ربّما إلاّ الولادة ومرحلة الابتدائية والثانويّة ولا تجمعني بمختلف أطرافها مسائل عميقة أو صداقات متطوّرة، ومن المعلوم أنّ العلاقة الحميميّة بموضوع البحث هي من العوائق الابستومولوجيّة الّتي تحول دون الموضوعيّة العلميّة كما وضّح ذلك غاستون باشلار، إذ لا يُمكن للمرء أن يكون بالشرفة ويرى نفسه مارّا بالشارع، لذلك انطلقت في البحث دون أفكار أو ارتسامات مُسبقة أو نوايا مبيّتة تجاه هذا الشخص أو ذاك أو هذا التيار أو غيره مثلما يعمُدُ إليه البعض ممّن صنعوا الأحداث وكانوا في مواقع القرار والفعل والمشاركة ثمّ كتبوا لاحقا بعد غيابهم عن تلك المواقع ما به يُبرّرون نقاوتهم وبراءتهم من أخطاء تجربة كانوا هم من المشكّلين لأهمّ مفاصلها أو يتّهمون غيرهم بما لم يكن فيهم وكشفت منتديات مؤسّسة التميمي للذاكرة الوطنيّة هذه الحقيقة، وربّما هذا ما دعا الدكتور ونّاس إلى الإقرار بوجود قراءات مختلفة ومتباينة «قراءات لا تكاد تلتقي، بل هي متفرّقة تماما، فهي إمّا مدحيّة مُسرفة في المدح، وإمّا نقديّة مُوغلة في النقد، وإلى الإقرار كذلك بغياب قراءات معتدلة وموضوعيّة»رؤية الدكتور ونّاس أقدّر أنّها منطلقة من ذلك التوصيف الّذي ذكرته ، والّذي فعلته أنّني سعيت وبصرامة علميّة رعاها الدكتور مصطفى حسن الّذي أطّر هذا البحث ودعّمها عضوا لجنة المناقشة الدكتور يوسف بن رمضان والدكتورة سلوى الشرفي ( الّذين أتوجّه إليهم بهذه المناسبة بتحيّة تقدير)، إلى تجاوز الغياب الّذي أشار إليه الدكتور منصف ونّاس، وذلك عبر قراءة اجتهدت قصارى جهدي أن تكون معتدلة وموضوعيّة لمسألة في غاية الدقّة والأهميّة، قراءة لها ضوابط منهجيّة ونظريّة دقيقة أي ليس فيها مدح مجاني ولا فيها كذلك نقد مبيّت.
هناك اليوم منهجيات واضحة للبحث العلمي وهناك نظريات للدراسة الأكاديميّة يُمكن أن نطبّقها على أيّ فترة أو مرحلة تاريخيّة وعلى أيّ تجربة في أيّ دولة من الدول، نفس المنهجيّة ونفس أدوات البحث الّتي عالجت بها التمثّل البورقيبي يُمكن أن تطبّق ـ مثلا ـ بنفس العناوين وبنفس الخطوط وبنفس الضوابط على الخطاب والممارسة الإعلاميّة في تونس بعد 1987 ، ولكن الاختلاف ربّما سيكون في النتائج لأنّ الفترة ليست الفترة والمرحلتان لهما خصائص ورؤى مختلفة في العديد من الجوانب وبالأخص منها حسب تقديري في مفاهيم الخطاب السياسي الرسمي وفي التشابكات الّتي انتهى إليها المشهد الإعلامي ككلّ ، وهذا الأمر يتطلّب كما يبدو لي بحثا جامعيّا آخر.
أمّا سؤال الدكتور بوقرّة فمن الصعب الإجابة عنه ،لأنّ شخصيّة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بما فيها من خصائص وميزات ستظلّ في حاجة للدراسة والتمحيص ومن العسير تحديد رؤية متكاملة لهذه الشخصيّة الفذّة والنادرة شأنها ككلّ شخصيات الزعماء والقادة الكبار الّذين ترشّحهم معطيات الواقع دون سواهم لمثل تلك المهمّات المستعصية والمعقّدة في قيادة شعب ما أو أمّة في ظرف تاريخيّ خاص ، أنا أؤمن بوجود ظواهر تاريخيّة لم تستوف إلى حد الآن البحث ولا تخضع لمنهج آلي أو مقاربة نهائيّة ، وقصارى جهد الباحثين فيها تقديم اجتهادات تأويليّة.
لو تتتبّع مثلا مسيرة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ستجد فيها الكثير من الغرابة انعكست مراحلها المختلفة على شخصيّة الرجل، حتّى أنّك في العديد من الوضعيات تجد نفسك وكأنّك أمام شخصيات متعدّدة لبورقيبة، فهو الليّن والمسامح وهو القويّ العاصف الّذي لا يعرف شفقة ، وهو رجل الحوار وهو رجل القمع ورفض الآخر ، وهو الرجل المدافع عن الحريات وحقوق الإنسان وهو رجل أصدر قرارات لتنفيذ العشرات من أحكام الإعدام وعرفت فترات من حكمه محاكمات قاسية وغير إنسانيّة، هو رجل خدم البلاد في العديد من الجوانب التنمويّة والتعليميّة والثقافيّة والانتصار لتحرير المرأة ولكنّه كذلك كان الرجل الّذي حرم البلاد الّتي يحكمها من الديمقراطيّة والتعدّديّة وحرمها من الاستفادة من مساهمات لخيرة من نخبها وكفاءاتها السياسيّة والفكريّة والنقابيّة لفترات طويلة ومتعاقبة حيث لم تخل عشريّة من عشريات الحكم البورقيبي من المحاكمات والاعتقالات والمطاردات ،وهو الرجل الّذي دعا إلى العلمانيّة ولكنّه حافظ على جوهر الدّين ولم يُحطّمه كليّا، وهو كذلك الّذي كافح لاستقلال البلاد وطرد المستعمر ولاحقا من أجل بناء الدولة التونسيّة الحديثة والمستقلّة ثمّ أدخلها نهاية حكمه إلى مأزق خطير كاد يعصف بالأخضر واليابس، كيف يُمكن لي أن أجيب عن تساؤل:من هو بورقيبة ؟ أينما تضعه تجده، وربّما تلك سمة من سمات الزعماء والعظماء والقادة التاريخيّين.
ولكن المطّلع على بحثي يُمكنه أن يُلامس محاولة لرصد التمثّلات الّتي كانت للرئيس الراحل بورقيبة حول الإعلام ، وهي تمثّلات لم ترتق بحسب ما توصّلت له في البحث إلى مفاهيم الاتصال الحديث القائمة على جعل الإعلام مجالا للجدل وتباين الآراء والمقاربات وفضاء للمناظرة،إعلام للجميع لهم فيه حقّ التعبير والكلام ، كما بحثت عن أسباب وجود فترات إعلاميّة تعدّديّة ومضيئة في فترة الحكم البورقيبي متناقضة مع تلك التمثّلات لأجد أنّ الضغط الّذي مارسته عدّة قطاعات منها الإعلام المهني والنضال السياسي والنقابي وأطراف خارجيّة وكذلك تداعيات الأزمات الاجتماعيّة فرضت وجود تلك المحطّات المشرقة مثل «ربيع الإعلام» في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وأٌلاحظ هنا أنّ التمثّل البورقيبي جعل من حريّة الإعلام بابا للتنفيس عن حالات اجتماعيّة متدهورة ومتّسمة بالاضطراب والمخاطر ووجد في»حريّة الإعلام» مخرجا مرحليّا لتلك الأزمات.
وفي المحصلة فإنّ هوامش الجدل الإعلامي الّتي تواجدت في بعض فترات الحكم البورقيبي لم تكن نابعة عن تمثّلات الرئيس بورقيبة بل كانت في غالب الأحيان نتيجة لعوامل خارجة عن تلك التمثّلات ، وذلك ما أبقى في تقديري مقولة «الحريّة الإعلاميّة» حبيسة الظرف التاريخي وأهواء الرئيس بورقيبة ولم تخرج المبادرات الّتي تمّ الإعلان عنها في بعض الفترات عن مستوى «القرار السياسي العابر» والكلام الإيديولوجي والدعائي، وهو ما يفسّر تساقط تلك المبادرات وتهاويها حتّى تلك الّتي كانت صادرة عن جهاز الدولة نفسها مثل مبادرة «الانفتاح» في ثمانينات القرن الماضي، وما توصّلت إليه في البحث أنّ الإرادة السياسيّة البورقيبيّة لم تكن في أيّ فترة من الفترات ترغب في ترسيخ روح الجدل داخل المشهد الإعلامي بصفة فعليّة وحقيقيّة، كما أنّ مضامين الجدل الإعلامي لم يكن مسموحا لها بولوج عدد من الميادين الحساسّة ذات الصّلة خاصّة بانتقاد نظام الحكم وبرامجه. وحتّى وإن أكّدت الدراسة النوعيّة للممارسة الإعلاميّة طيلة الحكم البورقيبي وجود نظامين إعلاميين الأوّل أحاديّ والثاني تعدّديّ فإنّ الدراسة الكميّة القائمة أساسا على ضبط المدى الزمني لكلا النظامين تشير إلى هيمنة وسيطرة النظام الأحادي وظرفيّة ومحدوديّة النظام التعدّدي، كما أنّ المقارنة بين التمثّلات والممارسات دفعت إلى الإقرار بأنّ العديد من المفاهيم المتواترة في الخطاب البورقيبي حول الإعلام بقيت دعائيّة ولم تعرف التجسيد على أرض الواقع.

* لو تجمل لنا أهم نقاط الاختلاف في تعامل بورقيبة مع الإعلام لما كان زعيما وطنيا ثم لما صار رئيسا للجمهورية التونسية؟

ـ إنّ مقاربة علاقة بورقيبة بالإعلام تمثّلا وممارسة والتدرّج في متابعة تطوّر هذه العلاقة وتنوّعها تبرز أنّ الحبيب بورقيبة قد وعى بصفة مبكّرة بأهمّية الوسيلة الإعلاميّة في خدمة الأهداف والغايات وبالقوّة التأثيريّة والتوجيهيّة للإعلام ، وعدّد بورقيبة في الكثير من خطبه فضائل «الإعلام» على الحركة الوطنيّة التونسيّة، فعبر الصحافة تمّ تبليغ هموم التونسيّين تحت سلطة المستعمر الفرنسي، وعبرها كذلك تمّت المناداة بحقّ البلاد في الاستقلال، كما ساهمت المقالات الصحفيّة في إثراء الجدل بين النخب التونسيّة وبينهم وبين نظرائهم في فرنسا والعالمين العربي والغربي، كما أنّ أطر وهياكل إدارة وتحرير الصحف والجرائد كانت مهدا للدفاع عن الهويّة الوطنيّة التونسيّة ومنطلقا لتنظيم العمل الكفاحي والتحريري.
وأدّى «الاتصال المباشر بالجماهير والمواطنين» الّذي آمن به بورقيبة طويلا إلى تكوين حزام شعبي واسع حول أقطاب النخبة السياسيّة والثقافيّة والنقابيّة ممّا ساهم في إذكاء روح المقاومة ومن ثمّ تقوية الضغط على المستعمر الفرنسي وإخضاعه في الأخير إلى مطالب التحرّر والاستقلال، ولا بُدّ هنا من الإشارة إلى تعويل الزعيم بورقيبة كثيرا على الصحافة والإعلام الأجنبي لضمان التأييد الدولي للقضية الوطنيّة ، إذ كتب في عديد الصحف الفرنسيّة على وجه الخصوص وأدلى بحوارات إذاعيّة هامّة جدّا من أبرزها الحوار مع المذيع منير شمّا في مقرّ إذاعة الـ» بي بي سي» في لندن سنة 1950 وهو الحوار الّذي كاد يتسبّب في قطع العلاقات الفرنسيّة البريطانيّة.
ولكن ما إن امتلك بورقيبة زمام الأمور بين يديه حتّى انقلب عن تلك المواقف والقناعات ، ولم يكن غريبا أن يكون أوّل وزير مستقيل من حكومة الاستقلال هو كاتب الدولة المكلّف بالإعلام البشير بن يحمد ، وتتالت الضغوطات على الصحف، وأبرزتُ في البحث أنّ عدد الصحف والدوريات التونسيّة بدأ في التناقص مع تقدّم مسيرة الدولة التونسيّة عمّا كان عنه حتّى زمن الاستعمار نفسه ، وهذه من المفارقات الغريبة الّتي تحمل الكثير من الدلالات ، فإذا كانت الصحافة التونسية وكما ضبط ذلك الباحث جمال الزرن تعدّ 51 عنوانا سنة 1937 و 25 عنوانا سنة 1950 و17 عنوانا فجر الاستقلال ، فإنّها بعد الاستقلال وبسبب ضغوط الرئيس بورقيبة على حرية الصحافة تقلّص عددها فمن 7 يوميات ناطقة باللغة العربية قبل الاستقلال لم تعمر إلا صحيفتان يوميتان بعد الاستقلال، أما الأسبوعيات والدوريات الّتي كان يُناهز عددها العشرين لم يبق منها سنة 1965 سوى خمسة عناوين يتيمة فقط ، فجريدة «الزهرة» أعرق الصحف وأوّل يومية تونسية مستقلة والتي تأسّست سنة 1890 اختفت سنة1959 ، كذلك الشأن بالنسبة إلى صحيفة الطليعة
وAfrique Action qeCG Tribune de progrès فقد عرفت العديد من الأطوار انتهت بالسيطرة عليها وتسليمها إلى الوزير الأسبق محمّد الصياح سنة 1963 لتُمارس سياسة دعائيّة للزعيم الأوحد وترسم ملامح فردانيّة لنضال شعب بأسره من أجل طرد المستعمر، ففي سنة 1958 عارضت الجريدة الّتي كان يديرها حينها محمّد المصمودي والبشير بن يحمد محاكمة الطاهر بن عمّار، فاهتزّ بورقيبة وسارع بطرد المصمودي من الديوان السياسي للحزب برغم العـلاقة القويّة الّتي كانت بينهما، ولاحقا وبسبب المقال الشهير الصادر في عدد 12 سبتمبر 1961 الّذي تطرّق إلى ظاهرة الحكم الفردي
Le pouvoir personnel الّتي بدأت قيادات الدول العربيّة المستقلّة في انتهاجه أبعد بورقيبة بن يحمد واضطرّه إلى الهجرة، كما قرّر بورقيبة وبسبب نفس المقال طرد المصمودي من الديوان السياسي للحزب للمرّة الثانية ، كما حاصر بورقيبة جريدة «الصباح» بسبب ما أبدته من ميل للزعيم صالح بن يوسف وحجب عنها تمويلات الدولة والحزب مدّعيّا خروجها عن الإجماع الوطني في حين أنّها كانت تعبّر عن رؤية معيّنة من مسألة الاستقلال وطبيعة العلاقة الّتي يجب أن تكون مع الدولة الفرنسيّة. وفي الكتاب شهادات معبّرة عمّا تعرّض له الإعلام في العهد البورقيبي من تكبيل ومراقبة وحصار وتدخّل في شؤونه (عبد الحميد بن مصطفى وصلاح الدين الجورشي) ، وحتّى الإعلام الرسمي نفسه ـ مثل وكالة تونس إفريقيا للأنباء والإذاعة والقريب من الحزب الحاكم مثل جريدة «بلادي» ـ كان يتعرّض إلى صنوف من التوجيه والانتقاء والصنصرة والرقابة المكثّفة ( وحيد براهم وبلحسن بن عرفة). الرئيس بورقيبة ونتيجة لهواجس السلطة والزعامة والتفرّد في الحكم وقيادة البلاد كان يرفض وجود إعلام تعدّدي فيه الرأي والرأي الآخر ، وكان يعتبر كلّ من ينتقد فلسفته في الحكم مناوئا ومعاديّا ووصف في إحدى خطبه مقالات البشير بن يحمد بأنّها «سفاسف» ، ولاحق أمنيّا وقضائيّا مجموعة «الطليعة « و Tribune de progrès وغيرها من الصحف ، وقصر فهمه لأهداف الإعلام على أهداف معيّنة هي الدعاية لبرامج الحكم، وفي تقديري فأنّ بورقيبة لم يتمثّل الإعلام والاتصال كشيئين منفصلين عن أجهزة الدولة بل اعتبرهما أحد هذه الأجهزة ، إن لم يكونا أبرزها على الإطلاق ومن المهمّ هنا الإشارة إلى أنّ الحكومة التونسيّة لم ينقطع عنها ومنذ تشكّلها في 15 أفريل 1956 وإلى 6 نوفمبر 1987 كاتب دولة أو وزير مكلّف بالإعلام تماما كالحقائب الوزاريّة السياديّة.
وبحسب رأيي فإنّ بورقيبة قد تمثّل الوسيلة الإعلاميّة كأداة لتنفيذ برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي محدّد لطرف وحيد هو «الدولة» وطالما أنّه كان يعتقد أنّه والدولة سواء في قولته الشهيرة L'Etat c ' est moi فقد غاب عنه الإيمان بأهمية التفاعل والتواصل بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين وبقيت النظرة إلى «الإعلام» محكومة بهواجس الخوف من «الآخر» والسعي إلى الحدّ من فرص وجوده على المسرح الإعلامي. ومن خلال ما توفّر من وثائق فإنّ بورقيبة قصر ذكر مفهوم «الاتصال» كمرادف للإعلام التقليدي والاتصال المباشر بالشعب ولم يستوعب المفهوم في توسّعه وانفتاحه وجدله وتعدّد أطراف بث «الرسالة الإعلاميّة» أي بمفهومه الديمقراطي والحداثي كفضاء ومجال للجدل السياسي والتفاعل والمناظرة، وهذا في نظري ما يُمكن أن يبرّر استمراريّة التدخّل الرقابي والقمعي للسلطة السياسيّة في الميدان الإعلامي منذ فجر الاستقلال وإلى مغيب الحكم البورقيبي دون انقطاع، إذ شهدت عقود الحكم البورقيبي الثلاثة ـ وإن بدرجات متفاوتة ـ العديد من القرارات والإجراءات الهادفة إلى تعطيل «الجدل الإعلامي والاتصالي» وإيقافه كلّما حاول الانطلاق.