بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/03/18

رجل الكلمات المتقاطعة


رجل صامت. واثقا يقفز الدرجات الخشبية الممتدة أمام الباب. ينزوي في ركن خافت الإضاءة. يوزع ملله داخل خانات الكلمات المتقاطعة، ويرش لحيته بنثار القهوة ليعبأ انتظاره بالوقت والنظر هنا وهناك داخل مقهى "التام تام".
لا أعتقد أنه ينتظر أحدا ما من الخارج. جلسته لا توحي بأنه على موعد أو على عجل. القلم بين أصابعه يتحرك عموديا وأفقيا كالبهلوان المحترف، راسما الحروف كيفا اتفق، أو هكذا يبدو. يظهر أنه رحالة تقاطعات، ولكني لست واثقا من ذلك مثله. ربما يشتغل... لا... لا أعتقد هذا مطلقا. أظن أن لحيته توحي بأنه يمتهن حرفة الصيد. هل يمكن أن يكون صيادا ؟. صيادا ماهرا.
انه صامت وواثقا مثل صياد. لابد أنه كان يمارس لعبة الصيد مع الأيائل البرية في أدغال أفريقيا. جسمه يبدو منهكا من رقصة التام تام... من رائحة عرق الزنجيات... ربما كان فعلا صيادا ماهرا... ربما...
صامت وواثق أمام الكلمات المتقاطعة، ولكنه يبدو مهزوزا ومتوثبا الآن أمام هاته العطور النائمة تحت أعناق البيضاوات داخل مقهى "التام تام".
هناك في الركن الأيمن من الطابق العلوي لمقهى "التام تام"، قبالة تمثال العاج المنتصب في شموخ أسطوري، وحذو الاباجورة الكريستالية المتبرجة بالأشعة الضوئية منعكسة على حوافها الحادة، وذات الأشكال الغريبة، جلست وحيدة تسرح شعرها والأحلام على إيقاع حركة الملعقة وسط الفنجان.
لم ينتبه لوجودهما الحزين في ذاك الصباح البارد داخل المقهى، لولا الصوت الذي أحدثه سقوط قلم الراوي، لما كان يرصد وجودهما من خلف.
تقاطعت العيون ببعضها البعض لحظة ارتطام القلم ببلور طاولة المقهى. التقط الراوي القلم اللعين والحنق باد عليه. شطب كل الكلام الذي كتبه فوق الورقة البيضاء.
دفع حساب ثلاثة فناجين قهوة للنادل الذي ظل فاغرا فاه، وانصرف خارجا تاركا وراءه ذاك الرجل الصامت وتلك الفتاة الوحيدة منعجنين ببياض وحبر القطع الصغيرة للورقة الملقية وسط مطفأة السجائر التي ملأها بأعقاب السجائر المبتلة وبأعواد الكبريت في ذاك الصباح بمقهى "التام تام".