بحث هذه المدونة الإلكترونية

2007/06/12

مسافرون لأحمد القاسمي

حشاد نازلا من جوف الصواعق

غير خاف على ذوي البصائر أن الرجال العظام وأبطال التاريخ هم المعالم التي تضيء للشعوب سبيلها نحو الحرية والتقدم والكرامة الإنسانية، وإذا ما كان تاريخ الشعوب رهين كد الجماهير وكدحها، فان طبائع الأمور وحكمة التاريخ تقتضي أن تتبلور رؤى تلك الجماهير الكادحة وتطلعاتها في رجل أو امرأة ينطق أو تنطق بلسانها وتعبر عن وجدان تلك الجموع الغفيرة إذا ما كان الموقف موقف قول وتعبير... ويضم فاعليتها ويجمع نشاطها وحركتها تحت قيادته وتأطيره إذا ما كان الموقف موقف فاعلية ونضال فيقود كفاحها ويوحد صفوفها ويتقدم بها إذا ما كان الموقف موقف تحرر وانعتاق وانطلاق نحو أفق الحرية والإنسانية الرحب، وهكذا تتمثل في أفذاذ قلائل من كل شعب آمال أجيال وأهداف قرون طويلة من النضال والاستبسال...
ومثلما كان لايطاليا غاريبلدي وأنطونيو غرامشي ولفرنسا نابليون ولألمانيا باسمارك ولروسيا لينين وللصين ماو تسي تونغ وللهند غاندي ولتركيا مصطفى كمال أتاتورك... كان لشعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية رموز وأبطال نافحوا عن حرمة أوطانهم وحقهم في السيادة الوطنية، وكان لنا نحن التونسيون فرحات حشاد ذاك الذي تجرأ على صواعق الاستعمار الفرنسي وعبث بأقداره ومطامحه في النيل من حرمة الوطن وإرادة شعبه.كان لابد ان اكتب بهذا الشكل لأقدم المؤلف الجديد للكاتب والناقد التونسي أحمد القاسمي صاحب رواية «زابينغ» وأعني بمؤلفه الجديد النص المسرحي «مسافرون» الذي قدم لنا من خلاله أحمد القاسمي ـ وعلى غير سيرة معاذ جبور بطل رواية «زابينغ»ـ قدم لنا سفر ثلة من خيرة مناضلي الحركة الوطنية بتونس وعلى رأسهم فرحات حشاد الى جانب مصطفى الفيلالي والنوري البودالي واحمد التليلي.وضمن هذا النص المسرحي حشد احمد القاسمي ما أمكنه من المواقف التي افرزتها مرحلة ما بين خريف 1947 (اضراب الاشهر الطويلة) وشتاء 1952 (اغتيال فرحات حشاد) وانتقل بشخوصه واشباحه في فضاءات معلومة ومحددة توزعت بين منزل حشاد برادس ومقر الاتحاد العام التونسي للشغل بنهج ترنجة وضيعة زيتون بالنفيضة وضيعة زيتون بنعسان.وعلى خلاف تعقيدات شخصية معاذ جبور في رواية «زابينغ» والتي ربما تطلبتها البنية الحكائية وتقنيات سرد الرواية، على خلافها كتب احمد القاسمي «مسافرون» بلغة بسيطة ومكثفة في آن وكأنه استمدها من شخصيات نصه وخاصة من حشاد والتليلي، كما ان التقنيات المسرحية لم تكن معقدة في نصه هذا حيث اكتفى القاسمي ببعض الاشارات الركحية او ببعض الاحالات النفسية لتسيير نسق احداث المسرحية خاصة في تنقلها من فضاء لاخر لينجح الى حد بعيد في ايهام القارئ بتحوله الى مشاهد يتابع كيانات حية متحركة فوق ركح مسرح ما، وهذا ربما ما يجعل نص «مسافرون» مؤهل بشكل كبير للاخراج المسرحي.

أفكار متقاطعة 13

فن الموت مع سقراط العراق

إن آخر ما يفكر فيه الرجل الحر هو الموت سبينوزا
عجبي من أحياء في موتهم يأسفون ويحزنون ويبكون ميتا مات بعدهم ولم يمت ككل الذين ماتوا قبله... عجبي من عرب وعاربة وعربان ومستعربة قرؤوا الدراما الإغريقية ووقفوا أمام محاورة دفاع سقراط الأثيني وهو شامخ يواجه مٌعدميه الجهلة ثم بكوا وحزنوا لما شاهدو سقراط العراقي يبتسم في كبرياء يقهر مٌعدميه الجهلة أيضا... ونسوا أن ابتسامة صدام حسين، سقراط العراق، هي تماما حكمة سقراط أثينا، فابتسامته تعزية لنفسه على موت وشيك وتعزية لنا نحن على موت متوقع، مثلها مثل براهين الخلود التي عزى بها سقراطٌ أثينا تلامذته لما رأى الأسى في عيونهم... كان لابد له أن يموت تلك الموتة الشنيعة/الكريمة لنأخذ الدرس ونشاهد بأم أعيننا كيف يكون فن الموت راقيا وكيف يكون فن الإماتة مبتذلا... مثلما كان لابد لذينك البرجين الشامخين أن ينهارا بتلك الطريقة السينمائية الذاهبة في التشويق والإثارة حدا بعيدا...وكان لابد لنا، نحن القابعين كالجرذان، أمام الشاشات الملونة والمسطحة أن نقف شاهدين على عتبتي تاريخ الألفية الثالثة... 11 سبتمبر 2001 و30 ديسمبر 2006... لتنأى بنا - الشاشات - بعيدا عن رواية «أكزينوفون» بشأن الحجة الأخيرة لسقراط التي أعدمَ بها سدنته في قلب أثينا لما ألقى وسط أحشائهم مقصلته الفلسفية وسألهم بسخرية لاذعة قائلا :»ألم تعلموا جميعا أن الطبيعة حكمت علي بالموت منذ لحظة ميلادي؟» مثلما ألقى سقراط العراق، صدام حسين، مقصلته الفلسفية أيضا لما قال لمعدميه وابتسامة المتحدي تغمر حبلهم ولوحتهم: «ألا تعلمون بأني أرفض الإقرار بأن أي إنسان قد عاش حياة خيرا من تلك التي عشتها حتى الآن؟ ذلك أني قد أدركتٌ أن حياتي قد أنفقت في تحديكم وفي محاربتكم ومقاومة وحشيتكم ولا إنسانيتكم... وهي حقيقة تمنحني أعظم الرضا، ولذا فاني أشعر باحترام عميق لذاتي وباحتقار أعمق لذواتكم أيها الأمريكيون الجبناء والعراقيون العملاء...».سطوة المشهدين وهما يغزوان بصرنا وبصيرتنا لم يفلحا في تعميتنا عن الهول والفزع اللذين أصابا الأمريكيين إبان تتالي انهيار رمزي «حضارتهم» الحجريين، ولا عن بوارق الفرح ولواعج الانتشاء يتناسلان من أحداق كل إنسان ترفرف بين ضلوعه روح سٌقراطية، لما سلم الرئيس العراقي صدام حسين رقبته وهو يبتسم بين الأيادي القذرة والوجوه المٌلتحفة بسواد خزيها، جاعلا المشهد لا يٌقرأ إلا عكسيا ووفقا لإشارات سيميولوجية ساطعة : حاكم متخف ومحكوم عليه مبتسم... تماما مثلما قرأنا المشهد اليوناني: حاكم جاهل ومحكوم عليه حكيم؟انهار البرجان... شٌنق صدام حسين... انتصرت الصورة، شانقة كل الجفون ومدمرة كل القلوب بسطوتها الساذجة... ومازالت النفوس المنخورة تنتحب وتولول وتبكي لأنها لم تعرف بعد كيف تحدق في الشمس والموت... شمس الحرية وموت سقراطي/ صَدامي... ولن تعرف ذلك أبدا ما دامت تٌتقن دفن أفكارها قبل دفن جثثها...بين موته الرمزي يوم أٌسر وموته العضوي يوم شٌنق، متنا نحن مليون ألف ميتة وميتة... ولم نتعلم أنه يهبنا آخر ما تبقى لديه: التحريض على الحياة وفقا لشرطها الرئيس، شامخة كالنخلة وهادرة كدجلة...بين السم الحلو المذاق الذي جرعوه عنوة لسقراط أثينا والحبل الناعم الذي لفوا به عنق سقراط العراق، ما يزال تاريخ الإنسانية يٌرسم تارة بأيدي جهلة القرن التاسع قبل الميلاد وطورا بأيدي جهلة القرن الحادي والعشرين ويبدو أن الإنسانية ما يزال لها متسع من الوقت والتاريخ لتتهجى نبضات الحكمة المٌحرضة على امتلاك إرادة الموت قبل إرادة الحياة.

أفكار متقاطعة 12

رسالتي إلى نيروبي

«اليوم لا يوجد شعب واحد معيّن يحتاج للتّحرير. واليوم لا يوجد شعب واحد معيّن يحتاج للإنقاذ. اليوم، يحتاج العالم بأسره وكل البشريّة للتّحرير والإنقاذ
فيدال كاسترو
** ** ** ** **** **
من هذه الإشارة المُختصرة، البليغة والواضحة لفيدال كاسترو يمكننا أن نتحسّس وضعنا اليوم، باعتبارنا جزءا مهما من العالم ومن البشريّة جمعاء، جزءا مهما من العالم المنهوبة ثرواته لمدّة خمسة قرون من طرف قوى النّهب والاستغلال بمختلف تمظهراتها:أسطورة الشّعب المختار.. اليهود... ثم الكنيسة الكاثوليكيّة في روما، ثم البروتستانت في بريطانيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة... رأسماليّة.. استعماريّة... ليبراليّة ديمقراطية... نيوليبيراليّة... امبرياليّة... عولمة...نتحسّس وضعنا باعتبارنا جزءا مهما من البشرية جمعاء وتحديدا من الـ 80 بالمائةالفائضين عن الحاجة، الذين لن يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان والتّبرّعات وأعمال الخير ومن خلال عولمة التّضامن، هذا إذا ما صمت منظّرو العولمة واقتصاديّوها عن مقولاتهم الرّاهنة المصمّمة على إن مراعاة البُعد الإجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئا لا يُطاق وأن شيئا من اللامساواة بات أمرا لا مناص منه وأن دولة الرّفاه تهدّد المستقبل، وأنها كانت مجرّد تنازل من جانب رأس المال إبان الحرب الباردة، وان ذلك التّنازل لم يعد له الآن ما يبرّره بعد انتهاء هذه الحرب...إن قتامة المستقبل الذي يخشاه الـ20 بالمائة النّاهبين هي أبلغ صورة عن الماضي المتوحّش للنّظام الرّأسمالي الذي أرسوه هم والذي استنزف جميع خيرات الأرض وقوى العمّال بما يكفي لتدميرها وإفناء شعوبها المفقّرة، ونتيجة للحاضر المبني على مجتمع الخُمس الثّريّ (20 بالمائة) وأربعة الأخماس المُفقّرين الذين يمثلون 80 بالمائة. إن السّؤال البسيط والضّروري في آن الذي يتوجّب طرحه بكل إلحاح أمام هذين الرّقمين الفارقين 80 بالمائة و20 بالمائة هو : ما الذي يؤمّن للأقليّة الثّريّة الاستمرار بالاستغلال والنّهب والحكم الإستبدادي؟ وما الذي يمنع الأغلبيّة الفقيرة من الخروج من توابيت موتهم التي يتنقّلون بها من رصيف الجوع إلى رصيف البطالة ورصيف الإبادة الجماعية حينا والإعدام الفردي حينا آخر ؟. فهل من الضروري التذكير بأن الحرية هي شبيهة بنا نحن المنعجنين بصهد الأيام المكرورة نٌلاطم أمواج عاتية ليست سوى أنفاسنا نحن الـ80 بالمائة...إن المطروح اليوم، من مهام ومسؤوليات، على كافة «الأنفاس الفائضة» ليست بالضرورة مهاما ومسؤوليات ثورية أو متمردة، بل هو الالتقاء الواعي بين جميع قواها الحية منها والمقهورة المشتتة في كل دول جهتي الأرض الجنوبي والشمالي، لتحديد وإيجاد نقطة اتفاق حول أكثر من نظام بدءا بالليبرالية والرأسمالية والامبريالية ووصولا إلى العولمة والحداثة وما بعدهما، وحتى مفهوم المجتمع المدني بمنظماته وهيئاته علينا أن نتفق حول الصيغة الأمثل التي تحسم أكثر من عائق يحول دون نجاعة نضاله بدءا بالتشكيك في التمويل ووصولا إلى تجاوز صبغة المنظمات والجمعيات والهيئات، نسوية أو ذكورية، سياسية أو نقابية، ثورية أو إصلاحية... فكل هذه التعلات لا تخدم إلا مصالح الأنظمة الاستبدادية بصنفيها المدني أو التيوقراطي.«من أجل عالم آخر ممكن»... شعار يرفع الآن في العاصمة الكينية، نيروبي... يقض مضاجع الناهبين ويضخ الأمل في خطوات المنهوبين في العالم وبالخصوص في القارة الإفريقية بشمالها وجنوبها... شعار يرفعه الآن مناضلو وأحرار العالم الذين يجتمعون في خطوة جديدة على درب تشبيك النضال الأممي في شكل قد يكون الأنسب والأمثل إلى حد الآن، هو المنتدى الاجتماعي آلإفريقي الذي سينطلق بداية من اليوم 20 جانفي 2007 ليتواصل إلى يوم 25 منه على أمل صياغة بدائل حقيقية لـلكوارث الإفريقية كالفقر والمجاعة والحروب الإثنية والأمية والنظم الاستبداديّة والسيدا والميز العنصري... من أجل افريقيا أخرى ممكنة...

دراسات في الفكر والسياسة

اخر اصدارات المفكر الحبيب الجنحاني
تعززت المكتبة التونسية مؤخرا بمؤلف فكري مهم للمفكر التونسي الدكتور الحبيب الجنحاني، اختار له من العناوين «دراسات في الفكر والسياسة» وقد جمّع الدكتور الحبيب الجنحاني في هذا المتن الفكري والسياسي جملة من الدراسات الاكاديمية، نُشر البعض منها سابقا والبعض الاخر يطلّع عليه القارئ للكتاب لأول مرة.
وقد توزعت مقاربات هذا المؤلف الى ثلاثة أبواب رئيسية وردت متتالية وفق الترتيب التالي: «دراسات فكرية» و «دراسات سياسية» و «حوارات» وقد اجتمعت دراسات البابين الاولين، والتي ناهزت الواحد والعشرين دراسة اكاديمية، لتلقي بضلالها على محاور وقضايا شغلت، وما تزال، المفكرين والسياسين العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، وهذه المحاور هي قضايا الحداثة وتجديد المناهج والمقاربات في تناول قضايا المجتمع العربي الاسلامي ثم ثالثا قضايا الحرية والاصلاح السياسي في العالم العربي.ولئن أجملت، ضمن هذه الاطلالة البرقية، متن اخر مؤلفات الدكتور الحبيب الجنحاني، فإنه لا يمكنني ان لا أشير الى راهنية القضايا التي طرحها والى دقته المنهجية في تقديم وتفكيك الكثير من المصطلحات والمفاهيم وتنزيلها في سياقاتها ومناخاتها بطريقة نقدية ساهمت في انارة العديد من الجوانب التي لا تزال عالقة أو زئبقية في أذهان الدراسين والقراء على حد السواء، ومن بين المداخل التي اجتهد الدكتور الحبيب الجنحاني في ولوجها واكسابها أبعادا فكرية وابستيمولوجية، خاصة تلك التي طالت مفهوم الحرية في التاريخ العربي واشكالية نقد خطاب الحداثة في الوطن العربي وثنائية التراث والحداثة وسياسة الهيمنة الثقافية وحوار الحضارات واشكالية المجتمع المدني وحال تطوره من تخلفه في المنطقة العربية، وطبيعة النظم الاستبدادية الجاثمة بكلكلها على شعوب الاقطار العربية، كما افرد الدكتور الحبيب الجنحاني جانبا مهما لدراسة المسألة العراقية والقضية الفلسطينية في علاقتهما بالايديولوجية الصهيونية والامبريالية الجديدة وعلاقة الغرب بالعالم العربي والاسلامي.وضمن نفس سياقات الفكر والسياسة تناول المؤرخ الحبيب الجنحاني اكثر من قضية فكرية وسياسية من مداخل تاريخية وتأريخية مثل مذكرات ادوارد سعيد وعودة الوعي بالهوية، وعبد العزيز الثعالبي والاصلاح والتقدم والتجديد في فكر الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور واحمد التليلي ونضاله في سبيل الديمقراطية وراضية الحداد في نضالها من اجل التحرر والحرية.كما لم تخلو الحوارات المدرجة في الباب الثالث من هذا المؤلف من الفائدة العلمية والفكرية لما طالته من مدارات بدأت من الفتنة الكبرى ووصلت الي مهمة المثقفين الليبراليين في تجديد الفكر القومي وبناء وحدة باتت اليوم المرفأ الاول الذي يتطلع اليه كل احرار هذا الوطن الكبير الممتد من الخليج الى المحيط.وتضمن المؤلف في اخر صفحاته «نافذة» حميمة جاءت بعنوان «مرفأ الذاكرة» وهي عبارة عن وقفة اولى للمفكر والدكتور الحبيب الجنحاني امام مسيرته النضالية والعلمية والفكرية التي كرّس هذا المفكر كل جهده لتكون في خدمة غيره من طلاّب العلم في الجامعات التونسية والغربية ومن عمال مضطهدين ومن احرار مسجونين، ولا يمكن لقارئ هذا المرفأ ان يخلص من قراءتها دون ان ترسخ بذهنه مقولة الدكتور الحبيب الجنحاني التي يقول فيها: «لا إبداع في الفكر السياسي، ولا في الاقتصاد، والعلم، والثقافة والفنون بدون توفر مناخ الحرية».

أفكار متقاطعة 8

بهتة النّوري بوزيد

هل كان يعلم المخرج التونسي النوري بوزيد تلك الحكمة التي قدّمها الرّوائي اليونانيّ نيكوس كازنتزاكي على لسان بطله الأسطوري «زوربا»، والتي يُحرّض من خلالها على «انسحاب» البطل لحظة قوّته وعنفوانه؟أعتقد ذلك جازما، فبعد مشاهدة أحداث «آخر فيلم» تتأكّد أنّ النوري بوزيد مخرج من طينة استثنائية، لم تُعجن الاّ بماءٍ آسنٍ لا يعرف إلاّ الإنسياب بين مفاصل الوجع التونسي والألم الشعبي الرّافل بين ضلوع كل تونسي وتونسيّة ترتسم ملامحه أو ملامحها مثلما غمرتنا شاشة السينما بملامح «بهتة» كنية لطفي العبدلي بطل «آخر فيلم»...
وغير بعيدا عن فيلم «بزناس» و»ريح السد» و»صفائح من ذهب» وفيلم «عرائس الطين»، يُوهمنا النوري بوزيد، هذا الزّورباويّ التونسي، من داخل متنه السينمائي بأنّ «آخر فيلم» هو فعلا فيلمه الأخير... فلا يترك لنا مجالا إلاّ لنذهب سويّة بنقطتي استفهام واضحتين: هل أنّ «آخر فيلم» هو لعبة سينمائية وبروباقندا دعائية اعتمدها النوري لترويج عمله، وهذه نقطة مُستبعدة جدّا جدّا؟ أو أنّ النوري بوزيد «تعب» فعلا من تشريح المجتمع وتفكيك مستغلقاته، وأصابه اليأس بعد أفلام خالها ستُحدث تغييرا ما في ذهنية من بيده التغيير، مسؤولا كان أو مواطنا... مثلما صار اليأس يجتاح مئات المفكرين والمثقفين والمسرحيين والسينمائيين والموسيقيين... وهي الحقيقة التي لم أعد أقبل تصديق سواها رغم النضال اليومي ورغم الأمل الوقّاد في عيون الأحرار في مختلف مجالاتهم الإبداعية والنضاليّة...ولكن، وبعيدا عن تلبيس الفنّي بالإديولوجي بصورة فجّة وميكانيكيّة، وأمام الهذيان المحموم الذي يُحمّل النوري بوزيد تهمة أنّ خطاب «آخر فيلم» هو الخطاب الذي يُراد ترويجه عن «الإرهاب» وعن الشعوب التي تُنتجه، فإنّي أعتقد أنّ هذا الفيلم كان وفيّا بشكل كبير للطرح الموضوعي والعقلاني لمسألة «العنف»، إذ أنّ المخرج النوري بوزيد، وكما عوّدنا ، لم يطرح المسألة من فوق ، وإنّما غار بعيدا في صلصال التفاصيل الشعبية، عرّى المفقّرين والمهمشين بطريقة ساخرة لم تسلم من تمرير إشارات طافحة عن أنّ الفقراء هم في الأصل مفقرون وأنّ الهامشيين هم أيضا مهمشون.. خاتل النوري بوزيد ولطفي العبدلي مشاهديه بصور مُربكة وبخطاب صريح، غير مباشر، ليأكّد أنّ مشاريع الإرهاب المؤدلج والعنف الفوضوي تُصنع بالإرهاب الإيديولوجي وبالعنف المنظم المُسَوّر بالقَوانين والدسَاتير.النوري بوزيد، في «آخر فيلم» كان جينيالوجيّا متمكّنا ، وبنيويّا متمرّسا بفكره وايديولوجيّته وبآلة تصويره.. فزرع حقلا من الألغام الدلالية والسيميائية الفاقعة، ويكفي أن نتذكّر أنّ البطل لطفي العبدلي، «بهتة»، فجّر نفسه داخل حاوية كُتبَ عليها capital... فجّر كل رأسماله الرمزي أمام سطوة الرأسمال المالي... أليس عالمنا اليوم هو عالم تفجير الرمزي والقيمي أمام اكتساح التسليع والتسليح والتشييئ والتبضيع...«آخر فيلم» وثيقة صادقة عن أوضاع متفجّرة وشعبوب مأزومة وخيوط تُحاك في السر والعلن.. قدّمها المخرج النوري بوزيد بأمانة فكريّة وحيطة إيديولوجيّة وثقة فنيّة عالية، أكّدت أنّ هذا المخرج منذور للإبداع والخلق في مجاله، وأن لا منفذ له للإنسحاب أو التوقف عن التنقيب والنبش الدّائم في الدوائر المسكوت عنها والمُغيّبة عن الأبصار المتعالية والبصائر المتواطئة.. خاصة بعد أن تواشجت العلاقة وتمتّنت أكثر بين «مثقف عضويّ» منغرس في هموم شعبه وغير قادر على خيانة أطره ومرجعياته وأفقه المستقبلي من جهة و جمهور يُراكم يوميّا ما يتجرّعه من شطحات الفوضويين وتهويمات الطوباويين من جهة ثانية...

حفيف الكتابة فحيح القراءة

مائة عام من الأدب التونـسـي على كف عفريت أو البحث عن أسطورة الطليعة والطليعيين

تمتلك مدونة الإبداع التونسية التي أنتجت خلال المائة سنة الأخيرة، خاصة في مجالي الشعر بمختلف أشكاله، والنثر قصة ورواية ونقدا وتأريخا... سلطة مرجعية فكرية و»روحية»لا تزال رهينة الغوامض والحوالك، وشديدة الالتباس على من يروم التوغل في تفاصيلها وحيثياتها وفك مستغلقاتها من جهة الإبداع، أو من جهة الإبداع عن الإبداع، ذلك أن الأعمال التي حاولت الإلمام بهذه المدونة قد «راوحت بين تأريخ الجنس الواحد، وتاريخ مجموع أجناس الأدب في حقبة زمنية محدودة... كما راوحت بين الاقتصار على التراجم، وتعزيزها بنصوص مختارة أو سلوك مسلك التحليل والتعليل...» ، فلا مؤلفات زين العابدين السنوسي ومحمد صالح الجابري وعبد السلام المسدي وجعفر ماجد وتوفيق بكار ومحمد محفوظ واحمد ممو ومحمد صالح بن عمر ومحمود طرشونة ومحي الدين خريف وجون فونتان وصالح القرمادي وعمر بن سالم والطاهر الهمامي وحسين العوري والمستشرقة الاسبانية خوزيفينا فقليزون... «أحرزت على رضاء الجميع» مثلما يشير الى ذلك الطاهر الهمامي ضمن آخر كتاب أصدره «حفيف الكتابة، فحيح القراءة».
فقد طرح الشاعر الطليعي والجامعي التونسي الطاهر الهمامي بين أيدي القراء، التونسيين والعرب، كتابا تأريخيا/نقديا أصدره «كالعادة» على نفقته الخاصة بمطبعة فن الطباعة بتونس في ديسمبر تخيّر له من العناوين «حفيف الكتابة، فحيح القراءة» وألحقه بعنوان فرعي ينص على أن فعلي الكتابة والقراءة سيحومان تحديدا في «قضايا ونصوص تونسية» وقدم ضمن متنه هذا ما حدده بجزء «من مادة نقدية كانت وليدة العقدين الماضين» طالت «رباعي الشعر والقص والنقد والتأريخ... ولا سيما اللحظة الطليعية»، ولئن يشي محتوى هذا المنجز النقدي منذ عتبة دخوله بأنه سيكون عملا تحقيبيا وتصنيفيا لفترات متراوحة ومتواترة من تاريخ الأدب التونسي، فإن الشاعر والجامعي الطاهر الهمامي يعلن منذ البدء بأنه سيتوخى ضمن هذا المنهج مسلكين «المسلك النوعي القائم على رصد التحول المفهومي والوظيفي الذي تلوح به البيانات والشعارات والسجالات وسائر النصوص المصاحبة للنص الإبداعي، والمسلك الكمي القائم على رصد الحد الضروري من الوفرة النصية الإبداعية».وقد وزع الطاهر الهمامي «حفيف الكتابة، فحيح القراءة» إلى بابين، وسم الأول بعودة الطليعة وضمنه «فجَّرَ» عديد المسائل الأدبية والشعرية مثل التجربة والتجريب في الشعر التونسي الحديث، وسؤال الوزن عند شعراء الطليعة، وقصة القصة في حركة الطليعة، والنقد الطليعي ومحنة الانبهار، وتباريح المصطلح في أدب الطليعة، ليختتم هذا الفصل برصد حركات المشهد الشعري التونسي ومساعي التزييف التي طالته. أما الباب الثاني من الكتاب فقد وسمه الطاهر الهمامي بإطلالة على نصوص، وضمنه أجرى الشاعر معوله النقدي في أغاني الحياة للشابي ليبين جدل الفن والواقع، وفي «حائية» منور صمادح ليقف على نقاط اختلاط الجد بالمزاح، كما قرأ نص حب للشاعر صالح القرمادي قراءة سيميائية، لينتهي إلى ديوان «الزهرات» لأبي بكر سعيد ويقف على بعض الملامح الشكلية وفقا لقراءة وصفية إحصائية.ولئن كانت أغلب المقاربات المجمعة ضمن هذا المتن النقدي، الذي ينضاف إلى المكتبة التونسية، سبق وأن قدمها الطاهر الهمامي إما في إطار التدريس الجامعي، وإما في إطار المحاضرات والملتقيات التي ساهم فيها تونسيا وعربيا، فإننا نقف من خلال عناصر «المقدمة» التي صدر بها الشاعر الطليعي كتابه هذا، والتي عنونها بحصاد القرن العشرين من الأدب التونسي (مسعى إحاطة) على جسامة هذا المنجز النقدي رغم صغر حجمه، إذ أن القرن العشرين مثلما قدمه لنا الطاهر الهمامي في علاقة بالأدب كان قد «شهد اهتزازا غير مسبوق لأسس الزوج التقليدي شعر/نثر ولحدود الأجناس التي قامت على أساسه، وجهاز مفاهيم النظرية الأدبية وتسمياتها ومصطلحاتها وبدءا من موفى ستينات القرن ومع الفورة التجريبية التي عرفتها الساحة العربية عموما والتونسية خصوصا بدا كما لو أن الشعر لم يعد شعرا، والقص لم يعد قصا، والنقد لم يعد نقدا... والأدب لم يعد أدبا...» طبعا الى جانب «صعوبة الحسم في الرؤى الفنية الفكرية الحاكمة لنصوص القرن وحسبانها على التحديدات التقليدية». وقد قسم الطاهر الهمامي مدخله الى المشهد الأدبي بتونس القرن الماضي، ضمن مقدمة «حفيف الكتابة، فحيح القراءة»، الى أربعة أجزاء مثلت «حلبة» الكتابة والقراءة لدى شعرائنا وكتابنا ونقادنا ومؤرخينا، فأما الشعر فقد أفرده الشاعر بالنصيب الأوفر من التحقيب والتصنيف باعتباره «رأس الحصيلة كما وحقل تجارب» وقد رسمت محطاته الخمس، من الرومانسية الى التجريب، «الخارطة الشعرية بتونس على مدى العقود العشرة الماضية»، وهذه المحطات كما رتبها لنا صاحب الكتاب هي محطة الشعر العصري (ظهرت سنة على أعمدة جريدة «السعادة العظمى» لصاحبها محمد الخضر حسين)، فمحطة الرومانسية (وقد اختزلها أبو القاسم الشابي بعد أن تَوٌنَسَ الظلال المشرقية المطلة من المهجر والديوان وأبولو...)، ثم محطة الشعر الحر (التي اضطلع روادها بخلخلة الشكل العمودي والموشحي على قلتهم مثلما بين ذلك الدكتور حسين العوري ضمن أطروحته التي تناولت تلك المرحلة بالتحديد)، ورابعا محطة الطليعة، (التي رفعت شعارا مركزيا عنوانه «غير العمودي والحر»، واحتضنتها مجلة الفكر والعمل الثقافي وثقافة والصفحات الثقافية لبعض الأسبوعيات، وهي المحطة التي أفرد لها الطاهر الهمامي، أحد أبرز متزعميها، عملا توثيقيا دراسيا وسمه بـ:»حركة الطليعة الأدبية في تونس 1968 ـ 1972»، وأوفى حقها وأكثر ضـمن كتابه الحديث «حفيف الكتابة، فحيح القراءة») لـيتوقف الهمامي عند محطة الصوفية في تاريخ الشعر التونسي طيلة قرن كامل (حيث نشطت سوق الأرواح القديمة واستعاد التراث الصوفي بريقه، فمثلت لهذه المحطة «جماعة القيروان» خاصة).أما «جنس» القصة والرواية، فلأنها «فن وافد على الثقافة العربية» فقد ظلت متأرجحة بين مسعى التحديث من جهة ومسعى التأصيل من الجهة الثانية، بعد أن لعبت الصحافة في بداية القرن العشرين دورا أساسيا في انتشار «هذا الفن» وتطوره، حيث بدأت تظهر ملامح قصاص تونسيين أمثال محمد العريبي ومحمد البشروش وعلي الدوعاجي، رغم أنهم ظلوا مشدودين الى المنحيين الاجتماعي والتاريخي مثلما يذكر ذلك الطاهر الهمامي، بعد أن يفرد محمود المسعدي لما تميزت به كتاباته من شكل تراثي ونزعة وجودية ولغة متفردة، وبعد الفورة التجريبية التي تزعمها عز الدين المدني بقصته التجريبية الانسان الصفر، والتي دخل على إثرها الجيل التجريبي الساحة الإبداعية في تونس الستينات والسبعينات مثل سمير العيادي ورضوان الكوني والبشير بن سلامة، وبعدها تسامقت أسماء تونسية في الرواية (دون ذكر للقصة والقصة القصيرة والأقصوصة) مثل رشاد الحمزاوي وعبد القادر بالحاج نصر ومحمود طرشونة وفرج لحوار ومحمد الهادي بن صالح وحسن بن عثمان وإبراهيم الدرغوثي وحسونة المصباحي... أما زاوية الحلبة الثالثة ضمن ترتيب كتاب الطاهر الهمامي فهي النقد الأدبي، الذي تحفزت له الأقلام المختصة بعد «المعارك القلمية التي نشبت حول التجديد والتقليد وشهدها جل المحطات الشعرية والسردية الكبرى»، وكان «الشعر العصري» قادحا ومحفزا أساسيا وأوليا في مجال النقد الأدبي على أعمدة صحف فاتحة القرن الغارب، لتكتمل ملامح الاختصاص والحرفية في هذا النمط الكتابي مع ستينات القرن العشرين وتحديدا مع الأساتذة الجامعيين، وكعادتها تمثل «حركة الطليعة» القادح الأبرز لحركة النقد الأدبي في السبعينات وتتوج محمد صالح بن عمر «ناقد الطليعة»، لتتالى بعد ذلك مقاربات وقراءات توفيق بكار وحمادي صمود ومحمود طرشونة وحسين الواد ومحمد الهادي الطرابلسي... من داخل الجامعة وتتعزز المدونة النقدية التونسية من خارج أسوار الجامعة من خلال أبو القاسم محمد كرو وأبو زيان السعدي، ليستمر النقد الأدبي «نشاطا تكميليا أو موازيا للنشاط الإبداعي عند عدد من الشعراء والقصاص أمثال منصف الوهايبي والطاهر الهمامي ومحمد الغزي ومحمد الخالدي...» وبتأريخ الأدب ينهي الطاهر الهمامي رسم الزاوية الأخيرة لحلبة الإبداع الكتابي (أكرر مفردة حلبة لكثافة دلالاتها المحيلة)، فيضعه في مفترق الطرق بين عقبات الموضوع وعقبات الذات، وهو «مأزق» طبيعي باعتبار انخراط الرجل تنظيرا وممارسة في تلافيف المدونة التونسية، وهو لذلك يلح على نقصان المحاولات التوثيقية الفردية والجماعية لتاريخ الأدب التونسي، خاصة في فترة ما بعد حركة الطليعة، والى حد الآن، وهو ما يعني انضمام «حفيف الكتابة، فحيح القراءة» ـ من خلال بابه الأول ـ الى «تاريخ الأدب التونسي» و»تاريخ الشعر التونسي المعاصر» و»تاريخ الأدب التونسي من بداياته حتى الآن» و»الشعر التونسي المعاصر من 1956 إلى 1999» و»الشعر الحر في تونس من 1952 إلى 1967» و»حركة الطليعة الأدبية في تونس 1968 ـ 1972» و»معجم المؤلفين التونسيين» و»كتّاب من تونس»... و غيرها من مؤلفات التوثيق والتاريخ التي قدمها الطاهر الهمامي ضمن جرده لأهم مؤلفات تأريخ الأدب التونسي في القرن الغارب، ولهذا بالذات، لتداخل الموضوعي بالذاتي، وأيضا لبعض من دلالة كلمة «فحيح» وضعت المائة العام الفائتة من الأدب التونسي على «كف عفريت»، رغم أن العمل التوثيقي الذي يقدمه كتاب «فحيح القراءة...» اقتصر على الباب الأول منه بشكل مباشر من خلال ما اصطلح عليه الكاتب بـ»مسعى إحاطة»، ورغم أن الكتاب برمته لا يمثل إلا «جزءا من مادة نقدية كانت وليدة العقدين الماضيين» مثلما أشار لذلك صاحبه.لئن برهن الطاهر الهمامي في هذا الجزء التوثيقي من كتابه على أن مختلف مراحل المدونة التونسية ومختلف نصوص الأجناس الأدبية التي أنتجت خلال العقود العشرة الأخيرة لم تكن مراحل أو أجناس منعزلة أو مستقلة بعضها عن بعض بقدر ما كانت سلسلة من الحلقات المفضية الواحدة الى الأخرى وفقا لظروف تاريخية وطنية أو عالمية ساهمت في ذلك، فإنه لم ينجو من «تغليب» و»إعلاء شأن» مرحلة الستينات والسبعينات/حركة الطليعة/جنس الشعر غير العمودي والحر على باقي المراحل والحركات الأدبية والأجناس الباقية من حيث الكم المرصود للطليعيين ضمن صفحات المتن (ثلث الكتاب أو أكثر)، وأيضا من خلال اختياره الموظف لمفردات بعينها ومصطلحات تصنيفية دون غيرها، وهذا أمر معلوم ووارد، ذلك أن التباس الأدوات بالمواقف عادة ما تجعل أي عمل مٌوَثق تتنازعه لحظتان، التضخيم أو التقزيم، على أن ملاحظتنا هذه لا تنفي سمة التواصل والتواصلية التي تنبثق منها محاولة الطاهر الهمامي هذه، خاصة وأن «حفيف القراءة، فحيح الكتابة» نهض في جزء كبير منه على نصوص نقدية سمتها الأساسية أنها كانت «ابنة لحظتها».ولئن يوهمنا الشاعر والجامعي الطاهر الهمامي ضمن هذا الكتاب ـ أيضا ـ أنه يقدم لقرائه متنا تأريخيا مختزلا لحصيلة القرن العشرين من الأدب التونسي، فإنه لم يتمكن بعد من التخلص من لحظته الطليعية، وانشداده الى رفاق غير العمودي والحر، إذ أنه يرجع، تقريبا، «أسباب ونتائج» باقي الإبداعات الى جانب شعر ما بعد الطليعيين طبعا، الى فورة الطليعيين، رغم أنه أجاد إعادة إثارة الأسئلة القديمة/الجديدة التي ربما يبتغي من ورائها محاولة تأسيس تاريخية النص الطليعي للمرة «الألف»، وهو النهج الذي لا يزال على دربه سائرا في كتاباته الشعرية، ولعل مجموعتيه الأخيرتين «أسكني يا جراح» و «مرثية البقر الضحوك وتباريح أخرى» خير برهان على ذلك، وبقدر ما بدا هذا المتن يتحرك تاريخيا نحو الماضي بقدر ما يطرح ممكنات «تأويل» تخص راهن ومستقبل الإبداع التونسي في مجالات النثر والشعر، وهذا ربما ما يلمسه القارئ الحصيف في تضاعيف أسلوب ولغة إطلالات الطاهر الهمامي الأربعة حول نصوص أبي القاسم الشابي ومنور صمادح وصالح القرمادي وسعيد أبي بكر، بعد أن حاول «زرع» كل نص في سياقه بمستويات السياق البسيطة والمركبة، وتوخى مختلف المداخل الأسلوبية والإحصائية والوصفية والتحليلية والتفكيكية... ذلك أن الناقد هنا لا يعيد ولا يكرر كلاما سابقا كان قد صدح به لطلبته أو نشره متفرقا هنا وهناك، وإنما هو يحمل قارئ اليوم على إعادة النظر في مدونته وعلى طرح السؤال وفقا لمسوغاته وشروطه التاريخية والمعرفية.

أفكار متقاطعة 7

مـــر الـكـــلام

لا يختلف عاقلان من أن الطلاق بين الواقع والنظرية يمثل المحتوى الحقيقي لكل أزمة تطال سياقا فكريا ما، سواء كان ذاك الفكر يساريا أو يمينيا، علميا أو إيديولوجيا، مثلما لا يختلف نفس العاقلان من أن معالجة تلك الأزمة لا يمكن أن تكون إلا من الداخل، من داخل النسق ذاته، ولا تعني المعالجة إيجاد الحلول واستنباط البدائل بقدر ما تعنى ـ خاصة المعالجة الفنية ـ بتفكيك وتقويض بنية ذاك النسق المتراكمة، وطرحه وفقا لمقاربة استيتيقية / فكرية تنأى عن الإيديولوجية المسطحة وذات الوجه العمودي الواحد.
وتعتبر المنظومة الماركسية أو الفكر الاشتراكي من أكثر الأنساق التي مثلت حقلا تجريبيا ثريا للنقد والمراجعة والفهم والمساءلة سواء فيما تعلق منها بالقاعدة الفلسفية أو بما تعلق بمختلف التجارب السياسية التي عاشتها الشعوب فيما سمي وانتمي للمعسكر الاشتراكي... وقد استأثرت الأعمال السردية بشكل خاص الى جانب المحاولات السينمائية والمسرحية بالنصيب الأكبر في اعتماد الفكر والتجربة الماركسيتين محمولا ومتنا لها ...وكانت مسرحية «مر الكلام» واحدة من هذه الأعمال، وهي مسرحية للروائي والناقد ظافر ناجي وإخراج للشاذلي العرفاوي ومن تمثيل وجيهة الجندوبي وفؤاد اليتيم وتوفيق العايب.مر الكلام» تلك التي تذكرنا بأغنية الراحل الشيخ إمام، اختارها الكاتب ظافر ناجي عتبة مفضية لمتنه المسرحي واشتغل على مدلولاتها من خلال توزيعه المحكم لآفاقها ليقدم من خلالها رؤيتها ربما لمسيرة تجربة «آفاق» التونسية في أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي خاصة من خلال الشخصية المحورية «قوشي».«مر الكلام زي الحسام...» مثل تاريخ الأفعال ومسار القيم لا أمر ثابت ولا شيء لا يتحول .. الكل مهزوز أو الكل إنساني يحكمه قانون النسبية وعدم الاكتمال...... أما المديح سهل ومريح» وهو ما لم يسقط فيه نص ظافر ناجي فقد أظهر لنا شخوصه الثلاثة بقروحهم وجروحهم من دون مساحيق ولا بهرج ولا زينة قد تغرق التاريخ في لجة المديح الموصل للتزييف...... والكلمة دين بس الوفاء على الحر» وهي الحكمة التي نهضت عليها هذه المسرحية، إذ أن إيمان منتجيها نصا وإخراجا وتمثيلا بأن التاريخ هو تاريخ الوفاء وأن الإبداع لا يمكن أن يكون خارج التاريخ وخارج النص وخارج الفعل الإنساني...إن ما يجعل هذه المسرحية فارقة ربما في تاريخ الأعمال التي «شخصت» تاريخ اليسار التونسي أن كاتبها ظافر ناجي أتقن جيدا إخراج لغتها من دلالة المطابقة (dénotation) الى دلالة الإيحاء (connotation) كما أن هذه المسرحية لم تحاول امتلاك معنى النص نفسه بقدر ما كانت قوة انكشاف على عالم يشكل إحالة النص ذاتها... وهذي الطريقة المثلى التي أشار إليها بول ريكور باعتبارها القوة المرجعية الأصيلة للنص ... فبهذه الطريقة «يكف التملك عن الظهور بوصفه نوعا من الاستحواذ، نوعا من التشبث بالأشياء، بل ينطوي، بدلا من ذلك، على لحظة فقدان للذات الأنانية والنرجسية».

الكتاب والقرآن قراءة معاصرة

نحو منهج جديد في أصول التشريع الاسلامي
إسلام سلفي، إسلام قرآني اسلام ليبرالي، اسلام حداثي، اسلام علماني، اسلام معتدل، اسلام متطرف، اسلام تنويري، اسلام ظلامي، اسلام سياسي، اسلام عقائدي...
اضمامة لا متناهية من التأويلات والتطويعات للدين الاسلامي من خلال نصوصه المؤسسة وتوجيه غائيّ لشعائر دينية وطقوس عقائدية بين توظيفات سياسوية آنية وقراءات علمية تسعى الى ملامسة المقدس واللامفكر فيه من خلال مناهج ومقاربات مستنبطة انقسمت هي بدورها الى قراءات نقدية وقراءات سلفية، ولئن ظل الخطاب التقليدي يلوك البديهيات المستوردة من القرن الرابع للهجرة دون اضافات عميقة، بل وحاول شدّ كل الافكار الى الوراء، فقد صنّف الخطاب النقدي الخطاب التقليدي في خانة الادبيات التاريخية الكلاسيكية في حين ان تطور العلم وتناسل المناهج ونظريات الفهم والتحليل والتفسير طرحت أدوات جديدة غير انها تداخلت عند المفكرين الغربيين المعاصرين وليس غريبا ان نجد ذلك التداخل اكثر استعمالا عند الكتاب العرب مثلما كتب ذلك عبد الله العروي في كتابه «مفهوم الايديولوجيا».مؤلف الدكتور محمد شحرور الموسوم بـ «الكتاب والقرآن ـ قراءة معاصرة» ولئن مر على صدور نسخته السادسة ثلاث عشرة سنة الا ان وهج النتائج التي توصل اليها والمغايرة لما هو سائد في التراث العربي الاسلامي لم يخفت بريقها، ولئن كانت زاوية النظر التي اتبعها الدكتور محمد شحرور هي الدراسة اللغوية وفق منهج تاريخي علمي الا انه قدم للقارئ جملة من الاستنتاجات القيّمة، فانطلاقا من فهمه اسرار اللسان العربي توصّل الى ان لفظتي «الكتاب» و «القرآن» متباينتان وغير مترادفتين على عكس المقولة السائدة بشأن ترادف لفظتي القرآن والكتاب، وقد استنتج ذلك من خلال فهم جديد لمعنى ترتيل القرآن، اذ على عكس الزمخشري في «اساس البلاغة» عندما اشار الى ان مادة «ر / ت / ل» تعني الاسترسال وحسن تأليف الحروف، أثبت الدكتور محمد شحرور ان نفس الجذر يعني ترتيب ونظم الموضوعات الواحدة الواردة في آيات مختلفة من القرآن في نسق واحد كي يسهل فهمها مستندا في ذلك الى سورة المزمل من الاية الاولى الى الاية الخامسة، كما يقدم هذا المؤلف «التصور الجديد الذي يقترح في فهم الاسلام، بالاستناد الى نتائج استخدام المنهج التاريخي العلمي في دراسة آيات الذكر الذي تعهد الله بحفظه» مثلما اشار إلى ذلك الدكتور جعفر دك الباب في مقدمته لكتاب شحرور «الكتاب والقرآن».وفي باب جدل الكون والانسان جمع شحرور ترتيل الايات التي اشتملت على موضوعات خلق الكون وخلق الانسان ونشأة الالسن واستنطقها ليؤكد بهذه الايات ان القرآن يشتمل على قانون الجدل العام من ناحية ومن ناحية اخرى على قانون الجدل الخاص بالانسان وأكدت تلك الايات ارتباط اللغة والتفكير ووظيفة الابلاغ منذ بداية نشأة الكلام الانساني وان اللغة الانسانية الاولى كانت منطوقة في نشأتها الاولى وان مصدر المعرفة الانسانية هو العالم الخارجي المادي الذي يتعرف الانسان عليه بواسطة القلم اي بمنهج تقليم «تمييز» سماته المختلفة مثلما اشار إلى ذلك ايضا مقدم النسخة السادسة لهذا المؤلف.يذكر الدكتور شحرور في مقدمته لمؤلفه «الكتاب والقرآن قراءة معاصرة» ان «الادبيات الاسلامية منذ مطلع القرن العشرين تطرح الاسلام عقيدة وسلوكا دون ان تدخل في العمق الفلسفي للعقيدة الاسلامية» ثم يقول «ولقد انطلقت من أطروحات، عدّتها من مسلمات العقيدة الاسلامية وهي لا تدري ان هذه المسلمات بحاجة الى اعادة النظر، فدارت هذه الادبيات في حلقة مفرغة، ولم تصل الى حل المعضلات الاساسية للفكر الاسلامي التقليدي مثل أطروحة القضاء والقدر والحرية ومشكلة المعرفة ونظرية الدولة والمجتمع والاقتصاد والديمقراطية وتفسير التاريخ، بحيث ينتج عن ذلك فكر اسلامي معاصر يحمل كل مقومات المعاصرة شكلا ومضمونا دون الخروج عن المقومات الاساسية للعقيدة الاسلامية في أبسط أشكالها وهي الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخير».وقد صنّف الدكتور محمد شحرور «المشاكل الاساسية» للفكر العربي المعاصر ومن ضمنه الفكر الاسلامي الى خمسة مشاكل اساسية هي عدم التقيّد بمنهج البحث العلمي الموضوعي واصدار حكم مسبق على مشكلة ما قبل البحث في هذه المشكلة (المرأة في الاسلام مثالا) وعدم الاستفادة من الفلسفات الانسانية وعدم وجود نظرية اسلامية في المعرفة الانسانية صياغة حديثة معاصرة ومستنبطة حصرا من القرآن لتعطينا ما يسمى «إسلامية المعرفة» والمشكلة الخامسة تتمثل في وجود أزمة فقهية حادة وغياب فهم معاصر للسنة النبوية.وقد ابرز واضع الكتاب ان قيمته الاساسية تكمن في اختراق الفقه الاسلامي الموروث «الفقهاء الخمسة» وإعطاء بديل لهم من خلال طرحه لمنهج جديد في الفقه الاسلامي وتطبيقه على احكام المرأة خاصة بعد صياغته لنظرية جديدة منطلقة من القرآن في المعرفة الانسانية «جدل الانسان».ان قيمة هذا الكتاب ماثلة من خلال متنه وتفريعاته التي طُرحت وهي أكيدة خاصة ان هذا المؤلف صدر قبل اكثر من خمس عشرة سنة وقد يكون كتاب محمد شحرور قادحا للمؤلفات اللاحقة في مجال دراسة الكتاب والسنة من خلال استنباطه لنتائج على المستوى اللغوي والبياني من داخل النص القرآني بما قدمه من قواعد التأويل ونماذجه وطبيعة المصطلحات الاساسية في الكتاب والقرآن والذكر والفرقان، ومن خلال جدل الاضداد وأنواع المعرفة والحد الادنى والحد الاعلى في التشريع ومن خلال جمع الحديث وتدوينه وفهمه وفلسفة القضاء الاسلامي والعقوبات...ان حسم المعركة القديمة الحديثة بين المعتزلة والفقهاء لصالح الفقهاء وضياع الفرق بين النبوّة والرسالة وبين الكتاب والقرآن وبالتالي تداخل العقل العلمي بالعقل الاتصالي مثلت جميعها أرضية اساسية لمشاريع القراءات والمقاربات والمحاولات الجادة للوقوف على اسباب الازمة وطرح بدائل مواكبة لنسق العصر الذي لم يعد يحتمل ازمات داخلية.

عيون الكلام

عيون الكلام

تحاصرنا الاغاني من كل الجهات والاحتمالات مثل منامات الفجر الدافئة التي تنتشر تحت الجسد وتتخلل الذاكرة من دون استئذان لتزفنا لمواعيد اخرى وتسلمنا الى مدارات أرحب.هي ذي الموسيقى، زورق ليلكي ينقلنا من وتر الى وتر ويعلق ايامنا من خاصرتها على السلم العاطفي مثل أيقونة شاردة بين غيمة شمعية ونجمة مكابرة...
ألحانه وأغانيها، لما كان ضمن مجموعة البحث الموسيقي السابقة، رفعت جيلا وجيل نحو الدرك الاعلى من الحلم... عيون الكلام الان تشق دربها الوعر وعلى فورة النشيد تتسامق شهبا وبأغانيها تدق في قلب الريح وتدا ثابتا...خميس البحري بألحانه وآمال الحمروني بصوتها والاثنان بإصرارهما اخترقا حُجب الالحان المنمطة والكلمات الجامدة وتاها في ضفة اخرى تتناغم مع تفاصيل ايامهم وايامنا...بدءا المسيرة وبدأت تزهر الاغاني وتتناسل الالحان من أوتار إجاصته الخشبية وتتساقط الكلمات من حنجرتها الدافئة وهما يبددان غيمة كلما رسما خطوة الى الامام وتتوارى الاوجاع كلما حلقا فوق ريش الحمام وحطّا فوق ركح الفضاء الحر التياترو...برؤيا متجددة وتصور متطور يهيمان حول الكلمة فيقعان كالفراشات فوق أوراق شاعر... فوق مجازات الطيب بوعلاق او كتابات احمد عفيفي مطر او صور عبد الجبار العش او خواطر التهامي الشايب او اسهامات علي سعيدان أو جدائل سعاد الصباح... يقعان وقوفا فوق نبض شاعر فيهزان جذع الروح كلما تساقطت الكلمات رقصا فوق أوتار كمنجة رمزي درويش او ألتو درة البش او ترنحا بين أنامل لطفي الرايس على الكنترباص وحسني النغموشي على آلة التشلوُ أو جنونا نحت كف ناجي الفلاح إيقاعا ووليد الحمراوي على الاكرديون...تتالى الاغنيات كالعلامات النورانية مضيئة دربا عسيرا لن ينتهي ومعلنة عن رحلة طويلة لم تبتدئ...الباهية، لافتة، الانحناءات، الدرة، مسألة مبدأ، حريتي، ما جدات العراق... تتعانق الاغنيات فوق سندس الروح وتتشابك الالحان في درج من أدراج الذاكرة ما دامت الرغبة متوقدة والاصرار ولاّد...هكذا نكتب عن الذين نحبهم ويحبون الحياة... وهكذا سنظل نكتب عن موسيقى الاختلاف التي تكبر اغنية تلو الاغنية في مجموعة «عيون الكلام».